البنك الأهلي قبل الثورة صنيعة بريطانية للسيطرة على اقتصاد مصر الأرشيف يكشف طباعة البنك للبنكنوت المصري.. وصراعه مع "بنك مصر" "الأهلي" تنصل للفلاحين وخذل الصناعة وتفرغ للنشاط التجاري فقط نظم بيت السناري الأثري بحي السيدة زينب بالقاهرة، مساء أمس الخميس اللقاء الثالث لسيمنار الوثائق تحت عنوان "أرشيفات منسية: أرشيف البنك الأهلي نموذجا". تناولت الندوة مسيرة البنك الأهلي المصري التي تعتبر مرآة تعكس التطور الاقتصادي والمالي في النصف الأول من القرن العشرين، وهذا من خلال أرشيف البنك الأهلي، واستعراض لأهم وثائقه ومدلولها الاقتصادي. قال دكتور محمد مبروك؛ الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر بمركز تاريخ مصر المعاصر، أن عام 1898 كان ميلاد البنك الأهلي من رحم أجنبي، فقد كان بنك إنجليزي بحت، هدفه استعماري للسيطرة على الاقتصاد المصري، فقد جاءت فكرة البنك لتسخير الإمكانيات الاقتصادية لمصر، في خدمة بريطانيا. ويؤكد الباحث أن سيرة البنك الأهلي تعكس التطور الاقتصادي لمصر في القرن العشرين، وحكى الباحث عن مدى الصعوبة التي قابلها من أجل الوصول لأرشيف البنك، ولم يستطع أن يفعل إلا بعد الحصول على "واسطة"، قائلاً: هناك وسواس أمني عند صناع القرار في مصر من الأرشيفات. وبعد الاطلاع على أرشيف البنك، استطاعت الوثائق أن تقدم مادة علمية تكشف ملامح الاقتصاد المصري في النصف الأول من القرن العشرين، على حد قوله. يواصل: أرشيف البنك عبارة عن مجموعة سجلات، بلغت خمسة سجلات كبيرة تغطي الفترة من 1906 وحتى 1911، يقول الباحث: لا أعرف أين باقي السجلات؛ إما تكون في حوزة الإدارة، أو يكون تم إعدمها. كذلك من ضمن الأرشيف 7 محافظ تغطي الفترة من 1956 وحتى 1962. ويلفت الباحث د.محمد مبروك إلى أن 90 % من الوثائق مكتوبة باللغة الفرنسية حتى عام 1960، وعرض مبروك نموذج باللغة الفرنسية عن حسابات بعض الموظفين بالبنك، وقد كانت العمالة كلها أجنبية، ثم بدأ تمصير البنك خطوة خطوة. ويروي الباحث واقعة أن حارس البنك حين سمع أحد الموظفين المصريين وكان يدعى "الهضيبي" يلقي عليه التحية باللغة العربية، فرح الحارس وقال له: "أخيرا سمعت صوت عربي في هذا البنك"!. كذلك عرض مبروك نموذج عن إيداعات بعض الشركات والأفراد بالبنك الأهلي، باعتباره أكبر مؤسسة مالية مهيمنة على الاقتصاد المصري. ولفت الباحث إلى أن سجلات الأرشيف تتضمن إرشادات عن كيفية التعامل مع السجل، لذلك فإن السجلات بعد مرور مئة عام تحتفظ برونقها، وتعد كما يقول درساً للمتخصصين في كيفية التعامل مع الوثائق. أما المحافظ كما يعرضها مبروك، فتحتوي على محاضر جلسات الإدارة التي تعرض بعض القضايا، منها جدول أعمال مجلس الإدارة في نوفمبر 1959 حتى كان يذكر الانتقادات الموجهة إلى البنك ورأي الأعضاء فيها. كذلك عرض بيان إصدار أوراق النقد عام 1959، فمنذ إنشاء البنك وله امتياز إصدار البنكنوت، فالبنك الأهلي هو أول من أصدر العملات الورقية. وكذلك عرض قرار مشروع إنشاء دار طباعة البنكنوت عام 1958. وتبين من نماذج وثائق محافظ أرشيف البنك، أن له دور ثقافي واجتماعي، فقد كان حريصاً على توعية موظفيه بالثقافة المالية، فقد يرسلهم في دورات تدريبية، أو يستدعي بعض كبار رجال الاقتصاد ليقوموا بدور توعيتهم. كذلك أسس البنك الأهلي المعهد المصرفي، بالإضافة إلى النشرة الاقتصادية التي كان يصدرها، وتعد من أهم وثائق البنك الأهلي، حيث تقدم ثقافة اقتصادية مهمة. بجانب هذا، فقد تبرع البنك ب500 جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية، كذلك تبرع للكنائس ودار الأيتام. وتساءل الباحث عن مصير وثائق البنك الأهلي، فالبنك يحتفظ بها فترة من الزمن، ثم تُفرم؛ رغم أن هذه الوثائق ميراث، ولدينا مؤسسة دار الوثائق المعنية بالأرشيفات، ومن ثم يجب علينا عدم التخلص من أي وثيقة دون الرجوع إليها، فنحن لا نمتلك موارد بقدر ما نمتلك ثقافة، فثروة مصر في ثقافتها ونحن نقضي عليها بأنفسنا. ويؤكد الباحث أن أرشيف البنك لم يكن كافياً، فعاد إلى وثائق البنك الأهلي في دار الوثائق فوجد قرار 1916 بتغطية إصدار البنكنوت بسندات بريطانيا، وهو ما يعتبره الباحث أخطر قرار في النصف الأول من القرن العشرين، لأنه مكّن بريطانيا من ربط عملتها بعملة مصر، وضمنت تبعية مصر الاقتصادية لها. يتابع: فقد تمكنت من إصدار البنكنوت بضمان سندات بريطانية، الأمر الذي ساعدها على تغطية نفقاتها واحتياجاتها من أموال مصر بضمان سنداتها، وبوعد التسديد. كذلك تعرض الوثائق نموذج التماس من بعض الأهالي بشأن تقسيط مديونياتهم، نظراً لارتفاع فائدة البنك. أيضاً استعان الباحث بنماذج من وثائق البنك الأهلي بالأرشيف البريطاني، ومنها لائحة نظام البنك الأهلي، وقرار تعيين السير الوين بالمر أول محافظ للبنك عام 1898م، وقد لاحظ الباحث تناثر وثائق البنك الأهلي، وقد حصل من دار المحفوظات العمومية على ملفات موظفي البنك، وبعض السجلات المالية. وأكد الباحث أنه لم يستطع دخول أرشيف البنك المركزي حتى عن طريق الواسطة، قائلاً: "البنك المركزي ممنوع الاقتراب أو التصوير"، تحت دعاوى "سري جداً"، و"الأمن القومي". وأوضح مبروك أن بريطانيا حاولت عن طريق هذا البنك استنزاف خيرات مصر، تحقيقاً لمقولة اللورد كرومر: "الاحتلال بمفهومي ليس احتلالاً عسكرياً بالجنود، لكن الاحتلال هو مالي واقتصادي، ولأجعلن جو مصر وماءها وترابها ملكاً لبريطانيا"!، ليعقب الباحث بقوله: ولازلنا إلى الآن نقع تحت الاحتلال الاقتصادي. وشرح الباحث كيف أن البنك الأهلي كان "البقرة الحلوب" التي تدر خيراتها لبريطانيا قبل ثورة 1952. تعرضت الوثائق كذلك إلى سيطرة البنك الأهلي على البنوك الأخرى، فهو المتحكم في اقتصاد مصر، ويتضمن كتاب الباحث الذي اشتمل على رسالته للدكتوراة عن موضوع أرشيف البنك الأهلي، أن البنك قام بخدعة قبل إنشائه وأعلن أنه سينقذ الفلاحين من المرابين الجشعين الذين امتصوا دماءهم، لكن هذا لم يحدث فقد كان هدف البنك تجاري بحت، وقد خذل البنك الصناعة ولم يدعمها، خدمة لأهداف بريطانيا في أن تظل مصر مزرعة للقطن فقط. يتابع: النشاط التجاري فقط هو هدف البنك، ولكن المثير للدهشة كما يشير الباحث: كيف يكون البنك الأهلي "بنك مركزي" ويقوم بنشاط تجاري، هذا نوع من التضارب. وعن دور البنك الأهلي تجاه الأزمات التي مرت بها مصر، أكد الباحث أنه تملص، فلم يكن دوره وطنياً، بل خدم الأهداف البريطانية. ولفت الباحث إلى الصراع الباطني بين البنك الأهلي وبنك مصر، حيث كان الأخير مشروعاً وطنياً، وقد حاول البنك الأهلي إفشال هذا المشروع. يتابع: في عام 1939 وقع بنك مصر في خطأ كبير، حين أعطى قروض قصيرة الأجل، وكان يتساهل في تسديد الديون، لذلك أصبحت القروض كبيرة، وفي عام 1939 هلّت بوادر الحرب العالمية الثانية، وحدثت أزمة اقتصادية، وحدث تكالب من المودعين على سحب أموالهم، والبنك لم يكن يملك أرصدة كافية، فلم يستطع تغطية احتياجات المودعين. اضطر بنك مصر اللجوء إلى البنك الأهلي – يواصل الباحث – حينها أملى "الأهلي" شروطه التي كان أولها إبعاد طلعت حرب عن بنك مصر، كما اشترط البنك الأهلي على الحكومة المصرية وجوب مد امتياز طبع البنكنوت خمسين عاماً أخرى. وتعرض الوثائق كذلك إلى محاولات تمصير البنك الأهلي، والتحرر الاقتصادي المصري من الهيمنة الأجنبية. وتعرض الوثائق إلى تأميم البنك عام 1960، ونقل ملكيته إلى الدولة. وجاءت التوصيات، بضرورة إيداع أرشيفات البورصة المصرية، الغرفة التجارية، البنك المركزي، وغيرها من المؤسسات في دار الوثائق التي لا تملك أرشيفات من هذا النوع. كذلك ضرورة التعاون مع الأرشيفات الأخرى فمثلاً في الأرشيف البريطاني كم مهول عن مصر. وأكد مبروك أن في وقت الملكية كانت الشفافية في أعلى معدلاتها، وأرشيف الأسرة العلوية كله محفوظ كما هو، لكن عبارات "سري، وسري جدا، ولا يطلع عليه أحد" من صنيعة ثورة يوليو وما بعدها، حتى أن الموازنة العامة فيما قبل ثورة 52 كانت تتضمن راتب الملك والملكة، ومخصصات الأفراد في العائلة المالكة!. وخصّ الباحث "محيط" بكلمات وردت على لسان أحد موظفي البنك من المصريين تصف لنا طبيعة هذا البنك فقال: كان البنك الذي يحمل اسم الدولة يدار من خارج الدولة، كان هناك لجنة ثلاثية في لندن تأمر فتطاع في القاهرة، كان رصيدنا من الذهب في جزانة بنك انجلترا لأننا غير أهل للمحافظة عليه!، كانت حصيلتنا من العملات الأجنبية تصب في جوف الإمبراطورية، كانت عضوية مجلس الإدارة وقفاً على فئة معينة. أجنبي بجنسه ودمه/ أجنبي بعاطفته وقلبه/ فئة تتكلم الإنجليزية وفئة تفكر بها/ كانوا في وادي وكنا في واد آخر/ كانوا يسيطرون وإن كانوا غرباء/ كنا غرباء وإن كنا أصحاب الدار/ كنا قلة وكانوا كثرة/ كنا في حالة ضياع ولكن كنا أصحاب رسالة/ كان علينا أن نختار الطريق حتى يتدفق السيل/ كان علينا أن نقتحم الظلام وقد اقتحمناه.