-1- اشتدت في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين خاصة، وبعد استقلال العالم العربي، صيحات المثقفين ضد ما يُطلق عليه حيناً بالغزو الثقافي، وحيناً آخر بالأفكار المستوردة، وحيناً ثالثاً بالاستعمار الثقافي. ومثل هذه الصيحات لم تكن جديدة على النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما سمعنا مثيلاً لها في النصف الأول من القرن العشرين، كما سمعنا مثيلاً لها - ولكن بدرجة أخف - في القرن التاسع عشر. -2- وهكذا، كنا نلاحظ علاقة وثيقة بين ارتفاع الصيحات ضد الغزو الثقافي وقوتها وبين العوامل السياسية في العالم العربي. حيث إن الشكوى من الغزو الثقافي أو الأفكار المستوردة، لم تكن ضد هذه الأفكار أو ضد هذه الثقافة، بقدر ما كانت ضد منبع هذه الأفكار ومصدر هذه الثقافة، والذي هو نفس المنبع والمصدر للاستعمار الغربي، الذي بدأ ينشر ظلاله على العالم العربي منذ عام 1830 عندما تمَّ احتلال أول بلد عربي، وهو الجزائر من قبل فرنسا، تحت بصر وسمع الإمبراطورية العثمانية، التي لم تحرك ساكناً آنذاك. -3- والدليل على أن الشكوى لم تتأتَّ من الثقافة الغازية والأفكار المستوردة، وإنما من أهل هذه الثقافة ومن أصحاب هذه الأفكار، أن العرب في الماضي، وتحديداً في القرن التاسع الميلادي وفي عصر الخليفة المأمون (813-819 م) كانوا ذوي ثقافة مفتوحة أمام الثقافات الأخرى كاليونانية، والفارسية، والهندية، والبيزنطية، وغيرها من الثقافات. وكانوا مرحبين بالاستفادة من هذه الثقافات، والأخذ عنها، وإعطائها وتبادل الطروحات الثقافية معها، دون عصبية ثقافية، ودون قبلية فكرية، ودون رفض أو تشنج. ذلك، أننا كنا أمة قوية لا نخشى الآخر، ولا نتوجَّس منه، ولا من ثقافته أو أفكاره. وكان لدينا مخزون ثقافي نستطيع أن نُبادل به، وذلك على عكس ما نحن عليه اليوم من فقر ثقافي مدقع، إلى الحد الذي أصبحنا معه شحاذي ثقافة، نمدُّ أيدينا إلى كل غني ثقافي. كما بلغنا من الفقر الثقافي حد التعالي والتعالم، كما قال لنا المفكر الجزائري مالك بن نبي (مشكلة الثقافة، ص 105)، فنرفض كل عطاء ثقافي، ونعتبره غزواً وأفكاراً مستوردة. ونقيس الثقافة بمقاييس "أخلاقية" وليس بمقاييس "براغماتية"، كما تفعل باقي الثقافات الأخرى في العصر الحديث. ومن هنا، فإن الحرص على "عُذرية" الثقافة العربية والخوف عليها - بدوافع دينية واجتماعية محضة - هو الذي يمنعها من الانفتاح على الآخر، حتى لا تفقد عذريتها. -4- لقد جلب العرب في العصر العباسي الفكر اليوناني، وترجموه، وفتحوا آفاق الثقافة العربية له، لكي يتلاقح معها. وأطلقوا على أرسطو لقب المُعلّم الأول. ولم يتهموا فكره بأنه ثقافة غازية أو فكر مستورد. ولم ينشغلوا بهذا الغزو المزعوم، عن رؤية الحقيقة ودراستها واستيعابها والاستفادة منها. فمِن منا يجرؤ على أن يُطلق اليوم على رينان، أو ديكارت، أو دارون، أو رَسِل، أو سارتر، أو غيرهم من فلاسفة الغرب، لقب مُعلِّمه الأول؟ -5- فحين جاء نابليون بحملته على مصر في 1798، محمّلاً بالبارود، والعسكر، والأرقام، والمعادلات، والمعلومات، والمختبرات، ومراكز الرصد، والعلماء، والمؤرخين، والرسامين، كنا أمة مفلسة (على الحديد) في ذلك الوقت بالنسبة لأوروبا. ولم نكن نملك من المعرفة العلمية شيئاً يُذكر. ورغم هذا، فقد وقفنا من عِلْم حملة نابليون موقف المُريب. بل إن بعض شيوخ مصر، كسَّروا المختبرات، وحطموا المراصد، واعتبروها عملاً من رجس الشيطان، واعتبروا أن نابليون جاء لغزونا عسكرياً وثقافياً بواسطة أفكاره المستوردة، والتي اعتُبرت خطراً على التراث. وكنا بذلك مثل الأم التي فقدت ولدها، من شدة الحرص عليه. -6- وتكررت هذه المقولات، عندما وفد إلينا المستشرقون من ذوي الأهداف الطيبة والأهداف الخبيثة على السواء. واعتبرنا أن حركة الاستشراق برمتها ما هي إلا نوع جديد من الغزو الثقافي والأفكار المستوردة. فهاجمنا الاستشراق والمستشرقين هجوماً ضارياً فيما عرفناه منهم، وفيما لم نعرفه. ولم نركن إلا لمن آمن بما نؤمن، واعتقد بما نعتقد من المستشرقين، وتسلّح بسلاح العروبة، وتعصَّب لها. وعندما انفتحنا قليلاً، طالبنا بأن يُقنّن "الفكر المستورد"؛ أي أن نستورد من الفكر ومن الثقافة ما يفيد، ونمنع ما لا يفيد. في حين أننا نفتح أبواب التجارة على مصراعيها لكي يستورد المستوردون ما يشاؤون، ويبيع البائعون ما يشاؤون. فلا عطر معيناً فقط يُباع، ولا مأكول خاصاً فقط يسوّق، ولا ملبس محصوراً فقط يُشترى، ولا وسيلة بعينها فقط تُركب. فأسواقنا حرة للتجارة، ولكنها ليست حرة للفكر. -7- إذن، فلماذا نُقنن الفكر ونُقنن الثقافة، ولا ندع نوافذنا مفتوحة على رياح الشرق ورياح الغرب، ونشمَّ من هذه الريح أزكاها، وأكثرها أريجاً، وفوغاً بالطيب. وهنا تبرز الأسئلة التالية: كيف نطالب بالحرية، ونحن نحجر على جانب من الفكر، ونفسح الجانب الآخر؟ ثم من هو القيّم على الأفكار، والذي وحده يرى الصالح منها والطالح؟ وكيف نستطيع غداً أن نميّز بأنفسنا الصالح، إذ لم نعرف الطالح؟ وهل من الممكن أن نرى وجهاً آخر للحقيقة، لكي نكوّن جيلاً ثقافياً؟ ومن هنا تنشأ الوصاية على الفكر وعلى المفكرين، وعلى القراءة والقارئين. وتُطرح الأسئلة التالية: هل كانت ثقافتنا العربية في الماضي ثقافة عربية بحتة؟ وهل كان تراثنا تراثاً عربياً نقياً بحتاً؟ بل هل كانت لغتنا العربية لغة عربية بحتة، لم يدخلها الأعجم الغريب؟ بل هل كانت تشريعاتنا عربية خالصة، خاصة بنا، ولم نأخذها من الأولين السابقين؟ المصدر: جريدة "الوطن" السعودية. بتاريخ: 26 أبريل 2008.