دولة منقوصة ومحرومة من احتكار العنف نسيم ضاهر وضع اتفاق الدوحة إطاراً لتسوية سياسية مرحلية في لبنان، وتضمن مقاربة للشق الأمني إثر اجتياح بيروت من جانب تنظيمات مسلحة عمادها حزب الله. ركن جمهور المواطنين الى عبارة غير معقدة وردت في متن النص، قادته الى معرفة المعني بهذه الإشارة ، ظناً أن المراد بالأمر ضبط الفلتان الأمني، والحد من انتشار ادوات العنف في المجتمع الأهلي وتحديداً لدى أحزاب ومنظمات، تحت مسميات خلاصية هيولية اشتقت من رحم المقاومة وتناسلت تحت ردائها. وقبل أن يجف حبر الوثيقة التعاقدية، خرجت أطروحات مستحدثة إلى حيِّز التداول عقب انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تستدعي قراءة متأنية بغية تلمس أبعادها والقبض على مبناها ومحمولها النظري. على هذا النحو، استوقفت المطالعة التي ساقها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في إطلالته الأخيرة والتي تمحورت حول موضوعتين أساسيتين: الأولى نادت بالتمايز المفهمي بين استراتيجية الدفاع واستراتيجية التحرير، في ثنائية منفصلة من حيث ترتيب القائمين المحتملين بهما؛ والثانية أعادت النظر بمقولة احتكار السلطة للعنف، أساس الدولة الحديثة، وحرَّمت على القوى الشرعية استخدامه «حيال المعارضة». تمضي جبهة الممانعة في استنباط المعوِّقات، حيثما لاحت فرصة تسوية معقولة تهيئ لاجتياز المحنة، واسترداد لبنان بعض عافية مفقودة. فعلى طريقة «كلما داويت جرحاً سالت لي جراح»، تتوالى اجتهادات المقدامين، والهندسات اللفظية الهادفة الى تجويف الدولة واستئخار استكمال بنائها، لتأبيد المنظومة العسكرية العائدة لحزب الله إيذاناً بشروط سياسية قاسية ينوء بها الاجتماع اللبناني، ترهق كاهل اقتصاده ومصيره. ويستحيل تجاهل صدور مثل هذه المقدِّمات، عند كل مفصل ومنعطف، واعتبارها ايضاحاً لثوابت سبق إقرارها والالتزام بها، كونها تقضم المزيد من المساحة والحقول المعقودة سيادياً للدولة دون سواها، وتلتف على الاجماع الوطني المطلوب، لا بل تزدري به وتسقطه كضرورة من حساباتها. في الشطر الأول من طرح محكم ومتكامل، تحوَّط حزب الله، بلسان أمينه العام، لمسألة فقدان السند المتمثل بالأرض المحتلة، في ضوء المفاوضات الجارية بين سوريا وإسرائيل، والتي تطال حكماً قضية مزارع شبعا ومرتفعات كفرشوبا، وتشملها ضمناً لوقوعها في دائرة مباحثات اسطنبول. وما من شك ان حزب الله يتوجَّس، في سره، من المسعى السوري، ويرفض مبدأ التفاوض في الأساس. لذا، تراه يتفلت مسبقاً من نتائج المفاوضات الجارية، ويستمر في رهانه على فشلها، قياساً بسابق محاولة إبَّان عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. فحيث اقترب موعد بدء الحوار الوطني اللبناني، وعلى جدوله كيفية بلورة خطة دفاعية تستوعب قدرات المقاومة وتضعها في عهدة الجيش، خصَّ حزب الله ذاته باستراتيجية موازية عنوانها التحرير، ذات طابع «هجومي» لا شريك له بها، موقوفة على قراره وحاجاته الميدانية، تخوِّله الحشد والتعبئة الى أجل غير مسمى، طالما لم يُفصحْ عن مدى المقصود بالتحرير وتحديد عتبة انجازه. الواضح ان هذا الفصل، جاء تفصيلاً على مقاس الحزب ومؤسسته العسكرية، يثقل في الوقت ذاته على الخطة الدفاعية بعناصر وشروط مسكوبية جاهزة لا تنتهي فصولاً، ويجعل المنطقة الرمادية الضبابية بين الدفاع والتحرير، ملعباً واسعاً خارج متناول الدولة، ومسرحاً لعمليات عسكرية تتكئ على المفهوم الجهادي الخاص بالمقاومة الاسلامية وحتمية منازلة الاستكبار وهزيمته على أرض لبنان. وفي نهاية المطاف، يبقى حزب ولاية الفقيه، كما نوَّه السيد نصر الله وأصرّ عليه، على تمام التطابق مع تعاليم الثورة الأم في إيران، وعلى تجانس موفور الضمانة والمدد لاندفاعتها، وعلى الأرجح أيضاً مؤازرة لسياساتها ومشروعها النووي. يتبنَّى حزب الله رؤى خلاصية من منبت عقيدي يتصل بالحقبة الثورية المنفلشة في إيران، كما ينحاز، في الفكر والممارسة، الى الجناح الأشد محافظة وراديكالية في آن، على غرار حلقة الرئيس أحمدي نجاد، في ارتباط عضوي رحمي مع الحرس الثوري، راعي ومسدد أولى خطواته تحت عباءة الإمام المرشد. ومن صلب قناعاته ومعتقده أن الوجود لا الحدود، لبّ الصراع، لا يختزل بتسويات أم إغلاق ملفات. هذه نقطة علاّم لا حياد عنها، ولا فكاك منها، أبدية ثابتة ما بقي كيان غاصب، وربما ساور بعض الحالمين، المتطرفين في إيمانهم «الثوري»، ما لم ترضخ أميركا وتمشي الى زوال. بالطبع، تغلف هذه المحدّدات بإنشاء أنيق جذاب، مطلعه كياني وطنيّ صرف، إنما خاتمته رهن بمصدر قرار من وراء الحدود. وستبقى هذه الاشكالية عالقة بالنشاط الجهادي من أرومة خمينية، تنحني ظاهراً ولا تلوي باطناً أو تغير مساراً، فلا حول ولا قوة للخيار الديموقراطي بها، على ساحة لبنان. عرَّج أمين عام حزب الله على مسألة عقدية أرست مدماك الدولة الحديثة، وتوجّت خضوع القوة لقوة القانون. خلاصتها المبدئية حصرية الأداة العُنفية بيد الدولة، ضابطها القانون المنبثق عن الإرادة الشعبية، ونقائضها التعسّف والاستنساب، ومزاجية الحكام المعهودة لزمن طويل. ولقد غدت هذه القاعدة مرتكزاً لإنفراد الدولة بالأحكام، وأساساً لمقبولية مجتمعية سياجها الحريات. فالقبول بتمويل السلاح كأداة في تصرف قوى الشرعية، وإجازة استخدامها له وفق منطوق القانون برقابة قضائية مستقلة، في الحالات العادية، وفي الذود عن الأوطان تبعاً للمنطق السيادي، في أوقات الشدة والتدبير المصيري، إنما يضع الحاضنة الدولتيّة فوق مكوِّنات المجتمع، ويسبغ صفات السيادة والريادة والمسؤولية العامة على كيانها المعنوي وجسدها المادي بالانفراد. ومن النافل أن مضمون رسالة السيد حسن نصر الله، من خلال التقاسيم على مبنى سلاح الشرعية، طعن حصانة الدولة في الصميم، وأنزلها الى مصاف الميليشيات الأهلية، يُرتاب من أهليتها، ويُخشى من إقدامها على التحرّش بمناوئي السلطة، من معارضة وخوارج. يؤلم الدولة، مطلق دولة، ان تعامل على هذا المنوال، وإن ببراعة، وعلى سبيل الافتراض والاحتراز، الواقع أن صدى المفاهيم التي حاول السيد نصر الله زرعها وسط مناصريه، وربما لدى الآخرين ولم يقم لها حجة سوف يكون له أبلغ وأخطر الأثر، واذا لم يواجه باكراً، من الأساس، لأنه وببساطة، ينسف منطق الدولة من الأساس، ويلامس فرضيات ينفيها القاموس الديموقراطي، لا رحمةً بأخصام السلطة بل صوناً للقواعد والمبادئ والمسلّمات. ولئن كان بعض الظنّ إثم، فان إعمال المعوّل في البيت المشترك، يعود بنا الى مربعات ماضية، ويلقي ظلال الشك على مجمل التوجه الاصلاحي لحامله، ناهيك عن الطابع السلمي لنشاطه وتمارينه. ان الرمي على امتيازات الدولة (لا السلطة) في الأحوال العادية، كالتصويب على صاحب الحق دون مسوِّغ أو اعتبار. واذ أتت شروحات حزب الله، إثر إحداث دامية شبيهة بالانقلاب، فلقد ضاعفت من المخاوف على المسار الدستوري، وأعطت قرينة تجاوزت الانطباع، على دونيّة مكانة ووظيفة الدولة المدنية من منظور فصيل جهادي يملك بنية عسكرية موازية، لا يلجم ذارعه نهي عن إغراء استخدام العنف في الداخل، ولا يعصم فكره ايمان بمرجعية وطنية منتخبة وتعددية مجتمعية راسخة، حقة، وتوق للاستقرار والسلام. عن صحيفة السفير اللبنانية 26/6/2008