محاولة غير واثقة للفهم... طلال عوكل اتفاق التهدئة الذي تم التوصل اليه على جبهة قطاع غزة مع اسرائيل، ودخل حيز التنفيذ العملي يوم الخميس الماضي، لاقى ترحيباً واسعاً لا على المستويين الفلسطيني والاسرائيلي فحسب، وانما لدى أوساط دولية كالأمم المتحدة، والاتحاد الاوروبي، وحمل وعوداً غامضة وحسابات متناقضة. فحسب استطلاعات الرأي الأخيرة في اسرائيل تؤيد الاتفاق مع حماس نسبة عالية لكن النسبة الأعلى من الجمهور لا تثق بقدرة الاتفاق على الثبات، والحال ذاته على صعيد الرأي العام الفلسطيني الذي يبدي ارتياحاً للتهدئة لكنه ارتياح مشوب بالشك من امكانية ثباته لفترة كافية. غير ان دوافع الجمهور الاسرائيلي تختلف عن دوافع الجمهور الفلسطيني من حيث ان الجمهور الاسرائيلي يميل أكثر فأكثر نحو اليمين، وفي اتجاه معاكس لعملية السلام وهو جمهور ينساق وراء رغبة قيادات اليمين في حرمان ايهود اولمرت أية فرصة للاستمرار، اما عن الجمهور الفلسطيني فإن الأمر ينطوي بشكل عام على قدر من التعتيم لوسائل الاشتباك، وقدر من القرف ازاء استمرار مثلث الرعب المتمثل في الحصار والعدوان والانقسام، وهو جمهور فاقد الثقة بالسياسات والنوايا الاسرائيلية. ايهود اولمرت هو ربما الاول الذي وصف اتفاق التهدئة بأنه هش وقصير الأجل، ويتفق معه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة لعملية السلام روبرت سيري في اعتبار الاتفاق هشاً. التساؤلات على مستوى الشارع الفلسطيني كثيرة، ويجري تداولها بقدر من السخرية السوداء، فالناس لا تفهم لماذا تضطر اسرائىل للتهدئة، ولماذا تبرم اتفاقاً طرفه الآخر حركة حماس التي يطلقون في وصفها أصعب الالفاظ ويتوعدونها بالدمار والقضاء عليها. ويتساءل الجمهور عن الاسباب التي تضع كل هذه الرؤوس المتناقضة من اسرائىل الى مصر، الى حماس الى السلطة على وسادة واحدة وإلى متى يمكن ان يستغرق هؤلاء في نوم هادئ وعميق. في شكلها العام تبدو خطوة التهدئة مساومة تهبط بالحقوق الفلسطينية عن المستوى السياسي إلى المستوى الانساني، فكل المطلوب هو تدفق البضائع وفتح المعابر التجارية حتى تحت السيطرة الاسرائيلية الكاملة بما يمكن حماس من القول ان صمودها لعام كامل من الحصار أتى بثماره، وانصاعت اسرائيل والعالم كله، حين اضطرت اسرائيل لتخفيف أو رفع الحصار عن البضائع. وهنا ينهض تساؤل آخر يندرج في اطار الشكوك الواقعية بمدى مصداقية اسرائىل ازاء التهدئة التي يفترض ان تستمر ستة اشهر، فهل هي راغبة في توفير مناخات افضل للمفاوضات، وهل بدلت موقفها من تعميق انقسام الفلسطينيين واضعافهم، ولماذا اذاً فرضت حصارها كل هذا الوقت ان كانت سترفعه فقط مقابل وقف اطلاق الصواريخ؟ المنسق الأعلى للسياسة الاوروبية خافيير سولانا رحب بالاتفاق وجدد استعداد الاتحاد الاوروبي لمعاودة فريق الرقابة للعمل على معبر رفح، لكنه ربط ذلك بالأمل في ان يؤدي ذلك إلى دفع محادثات السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين فهل ورد ذلك في حسابات حركة حماس؟ أما ممثل الأمين العام للأمم المتحدة روبرت سيري فقد رحب هو الآخر بالاتفاق، رغم شكوكه باستمراره، لكنه ربط ذلك بتوفر فرصة لارسال قوات حفظ سلام إلى قطاع غزة، فيما يكثر الحديث أيضاً عن قوات عربية كواحدة من نتائج أو مجريات الحوار الفلسطيني فهل ارادت حماس ذلك أيضاً؟ ثم كيف يمكن تفسير موافقة كل الاطراف الفلسطينية خصوصاً المتصارعة والمنقسمة، ولحساب أي الاطراف تمت اتفاقية التهدئة خصوصاً قبل بدء الحوار الفلسطيني الذي تذهب اليه حماس مرتاحة، ومن موقع القوي الذي صمد في وجه الحصار وفرض على المحاصرين ان يبدلوا سلوكهم؟ الاتفاق خلال عشرة ايام من دخوله حيز التنفيذ، سيؤدي حسب الاعلانات، اقلها من قبل قادة من حماس الى فتح المعابر التجارية بالكامل وهو منفصل عن المباحثات الجارية بشأن ملف الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليت الذي يبدو انه اقترب من النهاية وهو منفصل عن ملف معبر رفح. في "الايام" ذكرت ان الاتفاق بشأن شاليت يتوقف على نحو مئة اسم، ما يعني ان نهاية الملف قد تكون قريبة جداً وهو ما تسعى اليه اسرائيل، اما ملف معبر رفح، فقد جرى تشكيل لجنة ثلاثية من قبل حماس والسلطة، والاوروبيين للاتفاق بشأنه على اعتبار ان اسرائيل لا دخل لها في الأمر. أمر اللجنة الثلاثية يثير الشك فإذا سلمنا بأن اسرائيل يمكن وهي لا يمكن ان رفع يدها عن المعبر، فكيف لنا ان نصدق بأن لجنة كهذه يمكن ان تتسم بالجدية في غياب مشاركة مباشرة من مصر، التي قيل ان دورها سيكون اشرافياً على اللجنة؟ واذا تأجل عمل اللجنة الثلاثية التي لا يعرف احد متى وكيف ومن اين ستبدأ وهل يكون ذلك متزامناً مع بدء الحوار الفلسطيني او منفصلاً عنه، فماذا يعني سياسياً رفع الحصار؟ اسئلة كثيرة حائرة وقلقة لا تجد من اي طرف اجوبة عنها، ما يدفع المرء مرة أخرى للذهاب الى المصدر والمصدر هنا هو السياسة الاسرائيلية، التي تشكل عقده الربط والحل. سواء بدوافع تكتيكية، مناوراتية، او حقيقية فاننا نستبعد من اي طرف فلسطيني ان يبادر الى تعطيل او اجهاض اتفاق التهدئة، فالكل ولو من مواقع متعارضة له مصلحة في ذلك. فاذا كانت مصلحة حماس واضحة ومحددة فإنني اعتقد ان الرئيس محمود عباس لم يفقد الأمل بمتابعة وامكانية نجاح استراتيجيته التي تقضي باحتواء وادماج حركة حماس في العمل السياسي. يتصل الامر بالدوافع الاسرائيلية، وهي دوافع متناقضة ففي حين لم يخف اولمرت والعديد من وزرائه رغبتهم في القيام بعملية عسكرية واسعة ضد قطاع غزة كأولوية، ومن أجل تخفيف وطأة ازمته، فإن باراك يعمل على خط آخر. كان اولمرت واضحاً حين كرر اتهامه لباراك بأنه المسؤول عن تعطيل العملية العسكرية ضد قطاع غزة، فيما يصب في خانة باراك، الذي نجح في فرض خيار التهدئة لصالحه كاولوية حتى يحرم اولمرت من امكانية الاستفادة من نتائج عملية عسكرية ضد القطاع. بهذا المعنى فإن باراك الذي اختار التهدئة لتكتيك في غير مصلحة اولمرت سيكون هو ايضاً بطل ملف الافراج عن الجندي جلعاد شاليت، وحين ينتهي الأمر، تبدأ مرحلة جديدة من الخيارات الباراكية حصرياً. ان مد الخيط الى آخر قد يصل الى ان باراك سيعمد بعد اتمام صفقة شاليت إلى القيام بعملية عسكرية ضد قطاع غزة، ستكون أيضاً لحسابه وفي رصيده، وهو يحضر نفسه للمنافسة في انتخابات مبكرة قد لا تتعدى نهاية العام. هكذا تكون نهاية الخط الباراكي نهاية كل الخطوط المتشابكة التي تبدو في هذه اللحظة عصية على التفسير والفهم. عن صحيفة الايام الفلسطينية 23/6/2008