عودة الاستعراض العسكري في روسيا ليونيد ألكسندروفتش لأول مرة منذ عام 1990 سوف تشارك في العرض العسكري الذي يقام في موسكو في عيد النصر التاسع من مايو آليات ومقاتلات عسكرية على الساحة الحمراء.
وقد جاء هذا بقرار من الرئيس فلاديمير بوتين، حيث كان الاحتفال بذكرى الانتصار على الفاشية في الحرب العالمية الثانية يتم خلال الأعوام الثمانية عشرة الماضية من خلال طوابير للجنود واستعراضات بشرية وتظاهرات جماهيرية تمر بالساحة الحمراء.
وكان آخر استعراض ضخم على الساحة الحمراء تشارك فيه قوات الجيش بآلياتها العسكرية وطائراتها المقاتلة في ذكرى الثورة البلشفية في السابع من نوفمبر عام 1990، أي قبل انهيار الاتحاد السوفييتي بأقل من عام، وبعدها لم تخرج القوات والآليات للساحة الحمراء حتى الآن، وكان حجة نظام الرئيس الراحل يلتسين التكلفة المادية للعروض، وإن كان البعض من قادة وزارة الدفاع السابقين يؤكد أن السبب الرئيسي كان رغبة نظام الرئيس يلتسين في إظهار النزعة السلمية وعدم استعراض القوة في محاولة لكسب ود الغرب والولايات المتحدة الأميركية.
وبالفعل بعد توقف استعراضات الآلات العسكرية عام 1991 استحسن قادة الغرب هذه السياسة والتوجه من جانب الكريملين واعتبروها تعبيرا واضحا عن تغيير كبير في توجهات السياسة الخارجية الروسية.
قرار الرئيس بوتين باستئناف استعراضات الآلية العسكرية الروسية في عيد النصر والأعياد الأخرى لم يلق استحسانا من الغرب ومن بعض الجهات الخارجية التي رأت فيه استعراضا للقوة وتكشيرا عن الأنياب للقوة العسكرية الروسية القادمة بفاعلية واضحة على الساحة الدولية، واستعاد البعض مقولات الرئيس بوتين السابقة التي بدت فيها علامات الأسف والحسرة على انهيار الاتحاد السوفييتي واضحة.
وخاصة مقولته الشهيرة التي قال فيها إن «انهيار الاتحاد السوفييتي كان خطأ كبيرا وكان أكبر خسارة للمجتمع الدولي في الظروف الحالية»، وبما أن بوتين قد قرر الآن بالتحديد وقبل تركه الرئاسة بأيام معدودة أن يعيد هذه الاستعراضات العسكرية الضخمة فإنه بذلك يضع لخليفته خطا سياسيا جديدا سوف يلتزم به وسوف يكون معبرا عن توجهات السياسة الروسية في السنوات القادمة.
ويرى البعض أن الرئيس بوتين الذي ينتمي فكريا وروحيا للحقبة السوفييتية لم يشأ أن يترك الرئاسة دون أن يمتع نفسه بهذه اللحظات التاريخية التي كان يقف فيها زعماء الاتحاد السوفييتي السابقون في الشرفة التاريخية على الساحة الحمراء ومن خلفهم يرقد جثمان قائد الثورة البلشفية لينين وتمر أمامهم وفوقهم أضخم الآليات العسكرية والمقاتلات الجوية الحديثة وتحتشد أمامهم الآلاف من الجماهير تشهد عظمة الدولة التي استطاعت قهر النازي الألماني في الحرب العالمية وإنقاذ البشرية من بطشه.
هذه التصورات لدى البعض لا تخلو من القليل من الحقيقة والكثير من الخيال والخطأ في الفهم، والحقيقة فيها تتمثل في أن الشعب الروسي يشعر بالحنين والرغبة القوية في الإحساس بقوة بلاده.
هذا الإحساس الذي افتقده طيلة الأعوام الثمانية عشرة الماضية وكان لفقدانه أثار سلبية على الروح المعنوية للشعب الذي عاش الحقبة السوفييتية وهو يشعر أنه ينتمي لدولة عظمى قوية تستخدم قوتها في الدفاع عن أرضه ومصالحه أيضاً في الدفاع عن الحق والعدل وعن الأمن والسلام العالمي.
وخلال العقدين الماضيين تعرضت العقلية الروسية لهزات قوية وتشكيكات كثيرة وحملات تشويهية منظمة وموجهة تستهدف إحساسها بالفشل والضعف وأن كفاحها ونضالها لم يكن سوى مؤامرات وتآمرات لخدمة أغراض شخصية لدى قياداته، وهذا ما عبر عنه بوضوح وصراحة الرئيس بوتين في الاحتفال بالذكرى الستين للانتصار على الفاشية عام 2005 وبحضور عدد من قادة العالم بمن فيهم الرئيس الأميركي بوش في موسكو.
حيث قال بوتين للجميع إن تاريخ الحرب العالمية الثانية تم تشويهه واستغلاله لخدمة مصالح أمم وقوميات محددة، وكان الرئيس بوتين يقصد بالتحديد «اليهود» الذين استفادوا أكثر من غيرهم من النصر على الفاشية وصوروا للعالم كله أن الحرب ضد النازية الألمانية كان هدفها الأساسي هو إنقاذ اليهود من اضطهاد هتلر لهم، وهو ما عبر عنه الرئيس بوتين صراحة حين قال «نحن لم ندخل الحرب العالمية من أجل إنقاذ أمة أو قومية محددة بل من أجل إنقاذ البشرية كلها من النازية والفاشية».
الآن عندما تعود روسيا لاستعراض قوتها العسكرية في الاحتفال بأعياد النصر على النازية فهي تهدف من وراء ذلك ليس تخويف أو تهديد أحد بل تهدف إلى إحياء الذاكرة الوطنية لدى الشعب الروسي، هذه الذاكرة التي سعت جهات وقوى كثيرة لطمسها وربما محوها.
وقد فعلوا ذلك من قبل مع أمم وشعوب أخرى مثل الصين واليابان، هاتان الأمتان اللتان امتلأ تاريخهما بالانتصارات العسكرية التي كونت روح ووعي الشعبين، ثم فجأة تحولت هذه الروح إلى اتجاه آخر بعد جرها في عجلة الإنتاج والسوق والاستهلاك المعيشي الذي حول الإنسان إلى آلة تعمل فقط من أجل المال وتنسى الوطن والتاريخ والروح الوطنية، وهذا ما أرادوه للأمة الروسية أيضاً في خلال العقدين الماضيين.
قرار بوتين بعودة الاستعراض العسكري تأتي في وقتها بعد أن عادت روسيا بفاعلية وبقوة على الساحة الدولية، وأصبح الغرب بحاجة ملحة لها سواء كمصدر للطاقة من نفط وغاز أو كقوة عسكرية وإستراتيجية لإنقاذ حلف شمال الأطلسي من أزمته الحادة في أفغانستان.
وتأتي الاستعراضات في توقيت خروج روسيا لسوق السلاح العالمية كمنافس قوي للولايات المتحدة في هذه السوق التي غابت عنها روسيا طيلة ربع قرن مضى، كما تأتي هذه الاستعراضات مواكبة للإنجازات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تحققت طيلة فترتي حكم الرئيس بوتين.
هذه الاستعراضات ليست رسالة تهديد لأحد بل هي إشعار للآخرين بأن روسيا لن تكون مجرد عميل تجاري أو اقتصادي مثل الصين واليابان، بل ستكون قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية لها وزنها العالمي ولها مصالحها العالمية التي يجب على الآخرين احترامها. عن صحيفة البيان الاماراتية 1/5/2008