المسلمون وأوروبا والفاتيكان ممدوح الشيخ المحامي المصري الشهير محفوظ عزام مخزن أسرار كلما أتيحت لي فرصة للحوار معه خرجت منها بالكثير، وفضلا عن قرابته ومعايشته لعبد الرحمن باشا عزام أشهر أمناء جامعة الدول العربية، فإنه «خال» الدكتور أيمن الظواهري الرجل الثاني في تنظيم القاعدة.
و.... ومن القصص التي رواها لي في حوار معه أنه كان هناك مكتب في جماعة الإخوان اسمه مكتب الاتصال بالعالم الخارجي، وفي عام 1953 جاء أحد أعضائه إلى محفوظ عزام وقال له نريدك أن تكتب لنا مذكرة قانونية دولية في شأن النزاع بين إريتريا والحبشة، وكان الأمر قد عرض على الأممالمتحدة، وبعدها قابله محمد إبراهيم كامل في مكتب ممدوح عطية - وكلاهما أصبح وزيرا فيما بعد - وقال له ممدوح عطية: «ايه اللي أنت كاتبه ده فيه حاجة اسمها ربنا في عصر ستالين؟!».
انتهت رواية محفوظ عزام وبقي أن نقارن بين مد كان يتصف بالقوة الشديدة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين لدور الأيديولوجيات والقوميات على حساب دور الأديان والمذاهب، والقصة سالفة الذكر مجرد نموذج لما كان يحتل واجهة المشهد حتى أن معرفة التكوين الديني والمذهبي للمجتمعات كان مقصورا في حالات كثيرة على المتخصصين باعتبار أنه موضوع «جانبي». بل إن بعض المثقفين صدمه أن يعرف - عند انهيار الاتحاد السوفييتي - أن بعض الدول التي حصلت بسقوطه على استقلالها جمهوريات مسلمة.
الآن يحدث شيء مختلف ويعود الدين بقوة للعلاقات الدولية وتتشكل خطوط مواجهة جديدة لا حول المناطق الأغنى بالموارد الطبيعية ولا الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية بل حول نقاط التماس بين الجماعات الدينية والمذهبية، فمثلا، الحدود بين مسلمي البلقان ومسيحييه لا تقل سخونة عن «الستار الحديدي» خلال حقبة الباردة.. وهكذا
وما أكدته الأزمات المتعاقبة بسبب الرسوم المسيئة وتصريحات بابا الفاتيكان عن الإسلام وما تلا ذلك من أعمال فنية تسيء للإسلام أن علاقة ثلاثية جديدة بدأت تشهد هزات عنيفة أطرافها: المسلمون والأوروبيون والفاتيكان. وإذا كان الفاتيكان قد انتقد الفيلم المسيء للإسلام فإن موقفه يعبر عن رفض حقيقي للتيارات العلمانية المتشددة في أوروبا ليس فقط لأنها تهدد بتفجير العلاقة بين الفاتيكان والعالم الإسلامي وهو أمر لا تريده الفاتيكان أبدا، ولأسباب عديدة.
بل لأن الأوروبيين لا يشكلون عبئا على علاقة الفاتيكان مع المسلمين وحسب بل تسببوا في أميركا اللاتينية في خسارة تاريخية للفاتيكان، صحيح أن الدور السلبي لهؤلاء مختلف عن دورهم في العلاقة مع المسلمين لكن مصدر المشكلة واحد.
ففي كولومبيا، التي يعرف شعبها بإيمانه وتدينه المتأصلين، تفقد الكنسية الكاثوليكية أتباعها باستمرار بينما تكتظ فيه الكنائس الإنجيلية وينسب الخبراء ذلك لأسباب اجتماعية. فتقول عالمة الاجتماع آنا مرثيديث بيرييرا: في الظروف العسيرة، كالحروب أو الأزمات الاقتصادية، عادة يبحث الناس عن شيء ما أعظم منهم، شيء يوفر لهم الإحساس بالأمن، وهذا هو الدين. واتفاقا معها، انتقد القس افرايين الدانا الكنيسة الكاثوليكية التي ينتمي إليها قائلا: إن شعب كولومبيا يبحث الآن عن دين يحل لهم مشكلة الفقر... دين قريب من الناس.
وأضاف رجل الدين الكاثوليكي المعني بأحوال الأهالي المهمشين إن «هذه المسألة تشغل بال الكثيرين من الأساقفة الكاثوليك إذ يشهدون زيادة عدد الكنائس البروتستاتينية، لا سيما في القطاعات الشعبية.... رغم ذلك، لم تتأقلم الكنيسة الكاثوليكية على الحقبة التاريخية التي تعيشها البشرية، مما سهل من عملية نزوح المؤمنين نحو جماعات أخرى، ولأسباب سياسية واجتماعية متباينة، بدأ المؤمنون الكاثوليكيون الذين يمثلون 90% من الشعب في التراجع لصالح المبشرين الإنجيليين.
ويشير الخبراء الى التغييرات المتوالية التي أتاحت التعليم والمعرفة وعمل المرأة وتحديد النسل وانتشار وسائل الإعلام ترتب عنها زيادة العلمانية بين الأهالي. ومن الأحداث الهامة في مسيرة الكنيسة، تبلور «لاهوت التحرير» في أميركا اللاتينية في بداية الستينات، وهى دعوة توجهت للفقراء وقوبلت بحماس كبير من رجال الدين والعلمانيين الكاثوليك على السواء، فرأوا فيها إمكانية إحداث تغييرات اجتماعية وتنمية جماعية وحياة أفضل للأهالي المعوزين.
وكان من أبرز صورها، التحاق القس كاملو توري ريستريبو لرجال العصابات اليساريين في جيش التحرير الوطني، وموته بعد ذلك بقليل أثناء القتال في 1966. وتأكد هذا التوجه بعد المؤتمر الأسقفي العام الثاني لأميركا اللاتينية (1968) وكان شعاره «للتعرف على الله، لابد من التعرف على الإنسان». وهذا المؤثر العلماني اليساري كان الدور الأوروبي السلبي الذي ضاعف أزمة الكاثوليكية في منطقة كانت تنظر إلى أوروبا دائما بوصفها (القبلة الثقافية) التي يجب التوجه إليها، فلم يكن التأثير الأوروبي داعما للكاثوليكية بل كان عبئا عليها!
وقد سبق أن تعرضت لجوانب من أزمة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية في مقال: بنديكتوس وأزمة الكاثوليكية في العالم نشرته «البيان» مواكبا لزيارة البابا لها (2/6/2007)، ومن الإحصاءات التي نشرت مواكبة للزيارة أن أميركا اللاتينية التي تضم نحو نصف كاثوليك العالم أي (415 مليونا)، تواجه هجرة الكاثوليك إلى الكنائس البروتستانتية وخلال عشرة أعوام فقط انتقل الكاثوليك من 74% إلى 64% من السكان.
وقضية «النزيف» الذي تعانيه الكنيسة الكاثوليكية ليست قاصرة على أميركا اللاتينية، ففي ألمانيا مثلا تذكر الإحصاءات أن الكنيسة الكاثوليكية فقدت في عام واحد (1997) حوالي 124 ألفا من أتباعها، وقد وضعت الدير شبيجل الظاهرة في سياق حالة أعم من البعد عن الدين فنشرت في أحد أعدادها موضوعا عن الظاهرة عنوانه «وداع الله» وفيه قال رئيس الأساقفة الكاثوليك في ألمانيا إنه منذ دخول المسيحية لم تشهد ألمانيا مسيحيين أقل منها اليوم!
وفي أميركا واجهت الكنيسة الكاثوليكية محنة صعبة قبل سنوات، فهذه المؤسسة الضخمة التي يتبعها 65 مليون أميركي وتعد أكبر منظمة غير حكومية بأميركا وربما أكبر مساهم في ميزانية الفاتيكان واجهت قبل سنوات احتمال الإفلاس بسبب أحكام بالتعويض في فضيحة جنسية انفجرت قبل أعوام عندما كشف عن أن نحو 300 من القساوسة الكاثوليك الأميركيين يواجهون اتهامات بالتحرش الجنسي بالأطفال بعضها استمر قرابة عشرين عاما!
ولكن المتغير الإحصائي الذي يوصف بأنه (تاريخي) هو ما نشر في طبعة 2008 للدليل السنوي الفاتيكاني عن أن عدد المسلمين يتجاوز عدد الكاثوليك في العالم حيث أصبح المسلمون (2. 19%) في العالم يتجاوز عدد الكاثوليك (4. 17%) حسب صحيفة أوسرفاتوري رومانو (30-3 - 2008).
القضية طبعا ليست قضية العدد وحسب لكنه معيار مهم من معايير صياغة المستقبل فالمرعوبون من جاليات إسلامية صغيرة وجمهورية صغيرة في أقصى شرق القارة الأوروبية من المؤكد أن الإحصاءات ستزيدهم فزعا، وكلما فزعوا أعادوا إنتاج الأعمال الفكرية الفنية المسيئة للإسلام، وعندئذ يجد الفاتيكان نفسه مضطرا لأن يدفع ثمن سياسات أوروبية لم يشارك في صنعها لكن غبارها يصيب صورة الفاتيكان.... وهكذا دواليك. عن صحيفة البيان الاماراتية 6/4/2008