الانسحاب من العراق.. وصفحات حرب لا تنتهي قيس مجيد المولى تُروج القيادة الاميركية حاليا لامكانية الانسحاب من العراق. لكن الانسحاب الذي تروج له لايقومُ على اي مبدأ من المبادئ التي كانت ترمي اليها كنتائج نهائية لهذا الاحتلال وبالتالي لدى متابعة الاحداث وتحليلها لانجدُ ثمةَ اي تطابق بين التنظير الاميركي لمفاهيم هذا الغزو والاهداف الاميركية المزعومة والتي اعلن بان الرئيس بوش ماضٍ لتحقيقها من اجل تعزيز مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة ويافطات اخرى كثيرة تحت تلك المسميات والتي جلها وكما كانت تشيعه الادارة الاميركية سيقدم الانموذج العالمي المطلوب والذي سيصبح ومن خلال النظام الجديد في العراق اهم مراكز الاستقطاب الدولي لنظام قل نظيرهُ في العالم اي ان الدعوات المتكررة للانسحاب لاتستند الى مبرراتٍ منطقيةٍ يمكن لاي سياسي ان يُصَدِق تلك النوايا ويأخذها على محمل الجد لكن سخونة الاحداث في العراق والدول المجاورة له وعموم منطقة الشرق الاوسط تجعل الجهات المعنية في الشؤون المخابراتية تنشط في ترويج مثل هذه الدعاوى من اجل محاولة تهدئة المنطقة مؤقتاً ومن جهة اخرى لتأكيد سلامة النية لدى المحتل. ان عديد القوات الاميركية التي غزت العراق عام 2003 قد بلغ 160 الف مقاتل والقيادة العسكرية آنذاك اعتبرت ذلك الحجم من القوات بالعدد الكافي (والممتاز) لبسط سيطرتها على مجمل الاراضي العراقية حتى وان القادة الاميركان الميدانيين وخلال الاشهر الاولى من الحرب طلبوا من الرئيس بوش النظر في اعادة (5-10) آلاف جندي اميركي إلى وطنهم لانتفاء الحاجة اليهم بسبب السيطرة على الاوضاع الامنية ورافق ذلك ان شيئا من الهدوء او ما نسميه من القبول السياسي العربي للتوجهات الاميركية في العراق لان نتائج اهداف الاحتلال لم تتضح بعد بل ان العراقيين انفسهم كانوا يأملونَ من هذا الغزو شيئا ما على المستوى السياسي والاقتصادي كي يجدوا تبريراً لقبولهم لاحتلال وطنهم. ولكن الامور لم تسر بالشكل الذي يريدهُ المحتل لذلك كان امامهُ من ضمن خياراتهِ ان يستغلَ عدم العثور على اسلحة الدمار الشامل ويسوق امام الرأي العام افتراءً بانه استطاع تدمير القاعدة المادية لكل مرتكزات الصناعة المحظورة للنظام السابق ويسحب قواته بكاملها من العراق ويحرز نصراً معنوياً ومقبولاً وباقل الخسائر وهذا الاجراء سيحظى بتقدير المجتمع الدولي الذي سيرى بان هدف غزو العراق من قبل اميركا كان محدداً من اجل منع استخدام وانتشار اسلحة التدمير الشامل رغم عدم العثور عليها ويترك امر ادارة شؤون العراق للعراقيين. ولقد كان هذا الاجراء واردا في اذهان بعض الساسة الاميركان بل واردا في عقول اغلب الساسة في الدول التي ساندت الغزو وبمقدمتهم الفرنسيون والالمان والروس وحتى الساسة البريطانيون لولا اندفاعات رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وراء الاوهام الاميركية والسير على حبل الخطأ إلى ما لانهاية ولكن الذين رتبوا الامور لدفع الادارة الاميركية لشن الحرب بعد ان وفروا لها الحجج الباطلة لم يرق لهم تدارك الحرب وهي في بداياتها ودعوا القيادة الاميركية إلى تسويق مفهوم (الحرب لم تنته) رغم مضي عام عليها ورغم تصريح الرئيس بوش قبل اشهر من هذا التاريخ بان الحرب قد انتهت وتم ايقاف العمليات العسكرية اي ان قادة الضغط المؤثر في القرار الاميركي عززوا قناعة القيادة السياسية والعسكرية الاميركية من ان صفحة واحدة من صفحات الحرب قد انتهت وهي صفحة دخول القوات الاميركية واحتلال العراق وهناك صفحات اخرى لابد من انجازها. وهذا يعني ان فكرة الانسحاب المبكر من العراق ان وجد لها من يساندها قد حسمت نهائيا وعلى الجميع التطلع إلى الانجازات الاخرى التي ستتحقق على ايدي القوات الاميركية. وهذه الانجازات قد تكون ضمن واقع سياسي يمتد خارج حدود العراق ونتيجة لذلك لابد ان تلجأ الادارة الاميركية إلى مايبرر اطالة امد الحرب ولابد من فوضى جديدة تؤمن خلق مديات اوسع من الفوضى الخلاقة نفسها وهذا يعني ايضا عكس اتجاهات الحرب إلى مسارات اخرى. وقد تمت دراسة هذا الامر خلال النصف الثاني من السنة الاولى للاحتلال وتكون مجلس حربي استشاري من خبراء الحرب والمنظرين السابقين للسياسة الاميركية وكذلك القوى التي هيأت من وراء الستار لهذه الحرب. وقد صدرت الاوامر صريحة وعلى لسان الرئيس بوش بان الحرب لم تنته وكان لابد من عمل ما كي تستمر هذه الحرب اي ان يستمر الاحتلال والقبول بهِ فتم الاشتغال من قبل المحتل على ثقافة الطائفية وثقافة تقسيم العراق والتي لاقت قبولا من سياسيين كبار اتصف تاريخهم وتاريخ آبائهم بالوطنية والانتماء لوحدة الوطن الواحد لتكون الطائفية هي الرمز الذي تسمى من خلاله الوطنية بدلا من ان تكون معطيات العراقيين ونكرانهم لذاتهم وطائفتهم المسوغ للاعتصام بوطنيتهم. ومضت القيادة الاميركية إلى تشجيع التناحر السياسي وامدت بعض القوى السياسية بسبل حمايتها والترويج لها ولتميل مرة اخرى لقوى اخرى من اجل احداث الشبهات بين القوى السياسية في العراق بل ان اطرافا من جهات سياسية وبمعرفة الاميركان ساعدوا على دخول المقاتلين الاجانب والميليشيات المسلحة من دول الجوار فأنشأوا في العراق خلايا وقواعد لتنظيم القاعدة وللميليشيات المسلحة وكلاهما ساعدا بالاضرار بالعملية السياسية ومشاريع المصالحة الوطنية مع فتح ابواب العراق للمرتزقة الاجانب تحت واجهات شركات الحماية وجل هؤلاء من الذين يمتهنون الحرب امتهاناً. لقد طوت كل تلك الامور فكرة اي انسحاب مبكر للقوات الاميركية بعد ان هيأت الادارة الاميركية مستلزمات تصعيد الموقف العسكري وتصعيد فرص الاقتتال بين ابناء الشعب الواحد ليكون المشهد اليومي مليئاً بعمليات القتل والتفجير والاختطاف مع تصاعد لروح الحقد والتصفيات والتي سرعان ما خطط لها لتمس ركائز المجتمع العراقي وكوادره المهنية من اساتذة جامعات إلى اطباء ومهندسين ومثقفين وصحفيين. بل ان هذا التدمير مس البنى الجمالية لاي شاهد وإرث حضاري يوثق تاريخ العراق ويتغنى به. لقد تصاعدت هستيريا القتل العشوائي وظهرت علامات تلك الهستيريا على الآثار التي تحملها الجثث الملقاة في الشوارع وفي اماكن القمامة ليعزز ذلك الموت بموتٍ مجاني آخر من خلال السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة. وهذه الاعمال وبشتى اساليب طرق تنفيذها انما ترمي إلى ابادة هذا الشعب ابادة جماعية من قبل اطراف استخدمت للتخطيط وللتنفيذ وتحقيق ذلك الهدف. اما في الجانب الآخر فقد بدأ السياسيون حراكهم التشكيكي بعضهم بالبعض الآخر وكثرت التصفيات السياسية وبدافع تحريضي من المحتل نفسه بين هذه القوى وتزامن كل ذلك مع سوء الخدمات الاساسية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة لتصبح الحاجة لتواجد القوات الغازية ضرورية وملحة وهذه الحاجة لاتعبر عن نكران العراقيين لوطنيتهم بل بقدر ما تعكس الخوف الذي تركته تلك الحوادث وما قد ينجم من فقدان شمولي للامن في حالة رحيل القوات الغازية لتضاف إلى تلك المآسي مسلسلات التهجير والنزوح داخل الوطن وخارجه في أسوأ هجرة جماعية لشعب لا حول له ولا قوة امام جبروت الاحتلال والقوى المتصارعة من اجل السلطة. وتحت هذا الانشغال بدأ المحتل بالترويج لصفحته الجديدة تحت مسمى محاربة الارهاب الدولي وتحديدا (تنظيم القاعدة) حيث رأت الادارة الاميركية ان وجود هذا التنظيم في العراق سيهدد الامن القومي الاميركي وامن الدول الأوروبية الحليفة لذلك لابد من اصطفاف دولي جديد مع الجهد الاميركى في العراق لمحاربة هذا التنظيم وبهذا التوجه مع ظهور عمليات انتحارية للقاعدة هنا او هناك ضمن دول العالم اغلق الباب نهائياً امام اي من التلميحات التي كانت تصدر من الدول الأوروبية الحليفة وغير الحليفة وكذلك الدول العربية بتحديد جدول زمني لسحب القوات الاميركية من العراق بل ان القيادة العسكرية في العراق رأت ومع تصاعد الاقتتال وتدهور الامن وازدياد الفعل المقاوم ضد المحتلين بفعل المخطط الاميركي المذكور اوصت بضرورة زيادة عديد القوات الاميركية لكي يرتفع حجم هذه القوات من (160) الف جندي اميركي إلى (240) الف جندي اميركي. وسرعان ما وافق الرئيس بوش على هذه الزيادة التي اخذت طريقها للتنفيذ خلال فترة زمنية قصيرة جداً، ان الزيادة الجديدة كانت بالاصل تعني بان اي انسحاب للقوات الاميركية من العراق لابد لهُ ان يحافظ على حجم القوات التي غزت العراق وان الانسحاب مجرد مناورة بالاعداد الاضافية ولم يغب عن اعين هذه الادارة ان مشروعها المعلن من احتلال العراق قد التهمته الريح وان الاوراق التي لعب عليها الساسة لم تعد مجزية مقابل الوعود الاميركية التي لم ير احد نورها ولم تستطع اي من الادعاءات اقناع حتى البسطاء من المواطنين. وعليه لابد للادارة الاميركية من ايجاد صفحات اخرى لتطوير صيغ ادامة الاحتلال لتساهم هذه المرة الادارة الاميركية في ربط ما يجري في العراق بدول الجوار لتعتبر اميركا ان سبب الصراع الرئيسي في العراق يحمل صفات تدخل هذه الدول فكانت ايران وملفها النووي تحت المقايضة الاميركية وكانت سوريا وملف لبنان هي الاخرى تحت المقايضة الاميركية كما صدرت تلميحات إلى الجانب السعودي وتهديد هذه الدول بايجاد بدائل لانظمة الحكم فيها رغم ان هناك وجهات نظر اميركية غير مستقرة عن موقف هذه الدول من الوضع في العراق. لقد قامت هذه الدول ببعض الاجراءات التي تؤكد على مصداقيتها في عدم التدخل في الشأن العراقي وبالاخص سوريا والسعودية ولايزال السجال جاريا مع ايران. كما ان الادارة الاميركية رأت في هذا الوقت ان نمو الظاهرة الدينية السياسية في بعض دول الخليج ومنها البحرين والكويت سيخدم الاهداف المستقبلية للبقاء الطويل والابدي في العراق ولربما المنطقة بشكل عام كونها قد انفتحت لها صفحة جديدة من صفحات ادامة الحرب المزعومة وذلك من خلال التصدي للحركات الدينية السياسية في دول الخليج المذكورة. ان كل تلك الاحداث والعوامل قد تجمعت بفعل التصرف الاميركي في العراق وليس بفعل الصدفة لكي تلغي اي احتمال او اي مقاربة للتفكير بالانسحاب الجاد الذي يحترم ارادة العراقيين وسيادتهم على وطنهم وسط دعاوى التمويه التي تطلقها الادارة الاميركية من انها عازمة على وضع الترتيبات للانسحاب من العراق. ولكن لم يشر احد من هؤلاء المسؤولين إلى اي نوع من الانسحاب فهل هو وكما نرى انسحاب للقوات المضافة للحفاظ على حجم القوات الاساسية التي دخلت العراق عام 2003 ام هو انسحابٌ للقواعد الاميركية المنتشرة على الاراضي العراقية ام هو انسحابٌ للقواعد الموجودة جوار العراق ثم لماذا لايعلن هذا الانسحاب علنا ووفق المبادئ التي تقر حالياً ضمن مايسمى باتفاقية التفاهم مابين البلدين والتي روج لها كثيرا. رغم ذلك كله وما صدر من تصريحات حول الانسحاب المزعوم فان قادة ميدانيين اميركان قد ادلوا بشهاداتهم من مخاطر اي انسحاب واسموه (المتسرع) لان طبيعة الاحداث على الارض كما ذكروا تبدو غير مطمئنة وهذا ان حدث سيؤدي بعودة الامور إلى مرحلة الصفر اي مرحلة بداية حرب جديدة فهل باستطاعة اميركا مواصلة حرب جديدة وهي تنوء تحت حملين حمل تلطيف المشاعر بايجاد صيغة ما تدرج ضمن مفهوم الانسحاب واستكمال المهمة وحمل البقاء في العراق وهو الامر الذي يحتمل احتمالات كثيرة في المستقبل القريب. عن صحيفة الوطن القطرية 6/3/2008