لم يفقد العرب إمكان الاختيار سليمان تقي الدين مَنْ كان يتخيل أن فكرة سياسية مثل الصهيونية تجسدت في دولة “اسرائيل" خلال نصف قرن؟ من كان يتوقع أن أربعة ملايين يهودي واجهوا خلال ستين سنة ثلاثمائة مليون عربي يؤيدهم مليار مسلم في العالم؟ مَنْ كان يعتقد أن بضعة آلاف من المقاتلين في لبنان يستطيعون ان يهزموا جيش تلك الدولة وأن يطلقوا مساراً معاكساً للاحداث في منطقة ما يسمى “الشرق الأوسط"؟ هذه الأسئلة ليست في علم المستقبل بل هي في وقائع الأيام الماضية القريبة جداً من الذاكرة. ثمة أناس يعيشون حتى الآن شهدوا ولادة دولة “اسرائيل" الغاصبة لأرض فلسطين ولن يغمضوا عيونهم قبل ان يشاهدوا انكسارها وتراجعها وعجزها عن التحكم بتاريخ المنطقة. وراء كل هذه الاحداث كانت الإرادة والتصميم والتنظيم وروح التضحية زائداً توافر الامكانات المادية. الامكانات المادية كانت دائماً متوفرة للعرب. هم الآن خلال شهور معدودة قرّروا ان يستوردوا سلاحاً بعشرات مليارات الدولارات. الامكانات البشرية رغم كل ما يقال فيها من اعطاب، ميزانها راجح لمصلحتهم، التضحيات التي قدمها العرب بشعوبهم تضحيات هائلة. يخطئ من يقول خلاف ذلك. معارك الاستقلال والتحرر الوطني كلفت ملايين الشهداء. حروبهم الوطنية وآخرها حرب أكتوبر/تشرين 1973 كانت دليلاً إضافياً على العطاء وعلى التضحية وعلى احتمالات التقدم العلمي والتقني وعلى تحقيق انجازات. حجم التضحيات في العراق الآن وفي فلسطين ولبنان لا يمكن انكارها أو التقليل من حجمها وأهميتها. ما ينقص العرب إذن الإرادة والقرار والتصميم والتنظيم. هذه العناصر المعنوية هي التي اجتمعت في لبنان لدى جماعة من الناس فحققت نصراً، للبنان وللعرب، ويمكن ان يوظف في رصيد كل من يريد أن يواجه مشاريع الهيمنة الأمريكية والغطرسة “الإسرائيلية". ورغم الدلالات الاستراتيجية لهذا الحدث، الذي وقفت “اسرائيل" أمامه في حالة دهشة وذهول، وهي تحاول الآن الاستفادة من دروسه، مازلنا نحن العرب نحاصره ونتنكّر له. ليس جديداً ان يخوض العرب معاركهم بصورة متفرقة. فقد كانت ظروف القضية الوطنية العربية مختلفة. فلا أحد يبحث الآن عن توحيد أشكال المواجهة ووسائلها. ولا أحد يطمح إلى إزالة كل التباينات بين المواقع والمصالح والمواقف. لكن ثمة تحديات مشتركة تترتب على إعادة تشكيل النظام الاقليمي كدائرة من دوائر النظام الدولي الجديد. فما يسمّى “الشرق الأوسط" الذي يشكل العالم العربي قلبه هو نظام يختل التوازن الاجمالي فيه أمنياً واقتصادياً وثقافياً على حساب العرب. فركائز هذا النظام الاقليمي هي الدول ذات القدرات العسكرية المتقدمة (“اسرائيل" تركيا ايرانباكستان) لكن الأخطر انه يهدف إلى إعادة تشكيل الكيانات العربية نفسها على قواعد سياسية جديدة. إن إلغاء الهوية القومية العربية للنظام الاقليمي كما تشكل بعد الحرب العالمية الثانية هو المقدمة لتفكيك الهويات الوطنية. إن هذا ما يبرر الآن تقسيم العراق والسودان والسعي إلى تعميم النموذج الفيدرالي على عدد واسع من الكيانات لن تنجو منه دول تعتقد أنها تتعاون مع الاطار الاقليمي الخارجي. وبالفعل ان اسقاط الهوية العربية ومن ثم العمل على تفكيك الرابطة الدينية الاسلامية وتشظيتها على اساس المذاهب والفرق هو مسار لن تصمد أمامه الكيانات الوطنية القائمة. لن يؤسس ذلك إلى الحروب الأهلية الداخلية وحسب، بل ستمتد آثار ذلك ونتائجه إلى العام الإسلامي كله ولا سيما الخط الممتد إلى وسط آسيا والدول التي كانت جزءاً من النظام السوفييتي السابق. إن وظيفة هذا التفجير لبنية المجتمعات الشرقية هو جزء من أمن النفط العالمي ومن السيطرة على هذا المورد الحاسم لمجمل النظام الصناعي، ومن خلاله يتم تطويع كل الدول السائرة الآن نحو الشراكة الاقتصادية وبالتالي إلى البحث عن نظام متعدد الاقطاب. إن تكوين وعي تاريخي عند العرب، انطلاقاً من التحديات السياسية الراهنة هو شرط استمرار هذه الأمة التي يتم استهداف مكوناتها الموحدة كأمة بالنظر إلى الثلاثي الذي يعطيها أهميتها بنظر الغرب الصناعي المتقدم أي، النفط والموقع الجغرافي و"اسرائيل". وليس العرب وحدهم في هذه المواجهة أبداً، بل إن مصالحهم تلتقي بقوة مع المدى الآسيوي والإفريقي، كما يمكن أن تلعب دوراً مهماً في إذكاء تناقضات أوروبا نفسها وعلاقتها بالولاياتالمتحدة. إن شبكة أمان العالم العربي ليست وحيدة الجانب، بل ربما كان الجانب العسكري منها الآن هو الوجه الأضعف من زاوية المنافسة والمقارنات مع القوى الدولية والقوى المحيطة. لكن شبك المصالح الاقتصادية واشكال التعاون مع الاقتصاديات النامية يساعد على تشكيل الجبهة التي تُسهم في إعادة بناء التوازنات في النظام الدولي نفسه. هذا الخيار يفتح أمام العرب آفاقاً واسعة. إن فوائض النفط كانت ومازالت تستخدم لدعم سياسات الولاياتالمتحدة على نفس المستوى مع النفط نفسه. كما أن سياسات التسلّح العربية غير المندرجة في إطار خطة الأمن القومي العربي هي مصدر استنزاف أيضاً للامكانات العربية. نحن في عالم لا تصمد فيه إلاّ التكتلات الاقتصادية الكبرى، بل في عولمة اجتاحت كل الحدود والسدود، فمن البديهي ان نبحث عن التكامل الاقتصادي في البيئة التي تحتاج إلى التنمية. فالشراكة الاقتصادية طبعاً يجب أن تكون في كل الاتجاهات لكن المدى الحيوي الفعلي المتوازن هو في العلاقة مع اقتصاديات بحاجة إلى النمو وليس بعلاقة الخضوع والتبعية للاقتصاديات المتقدمة. ان ملايين الشباب العربي يتجه الآن “شمالاً" إما بسبب البطالة وغياب فرص العمل وإما بسبب انخفاض مستوى البنيات الاقتصادية الانتاجية والتكنولوجيا. ان الثروة البشرية هي الأساس والأكثر ثباتاً واستقراراً. بل إن جزءاً أساسياً من المشكلات السياسية تتبع مستويات التطور الاجتماعي. إن فكرة سياسية صنعت دولة من دون جذور تاريخية أو مقومات مادية. قامت هذه الدولة غصباً لأرض شعب كامل وتحدياً لجميع شعوب محيطها. لماذا لا يجدد العرب فكرة اتحادهم بناء على معطيات التاريخ وإلحاح المستقبل. فلا مستقبل للعرب إلى التقدم ما لم تتضافر جهودهم في سبيل ذلك. عن صحيفة الخليج الاماراتية 1/3/2008