في المسألة الغزية د. ناجي صادق شراب هل تحولت القضية الفلسطينية واختزلت إلى ما بات يعرف اليوم بمسألة غزة بكل مكوناتها وتعقيداتها الحسابية، رغم صغر مساحتها وكثافة سكانها، وإذا كانت القضية الفلسطينية ترادف اليوم المسألة الغزية، فما المقصود بهذه المسألة وعناصرها، وما تداعياتها ؟ غزة، هذا الجزء الصغير الجميل، تتجمع بين ثناياه كل مكونات وعناصر القضية الفلسطينية، ولكن بحسابات أخرى، هناك أولاً الطرف الفلسطيني الفاعل الرئيسي في معادلة القضية الفلسطينية، ولكن في هذه الحالة انحصر في حركتي فتح وحماس وصراعهما حول الحكم والسلطة ورؤيتهما البعيدة للقضية الفلسطينة، وثانياً الموقف المصري بحكم العلاقات التاريخية الطويلة والمسؤوليات الأمنية والاستراتيجية والإنسانية والاجتماعية، التي تربطها بغزة على وجه الخصوص، كون الأخيرة تمثل البوابة الشرقية، وهي إحدى البوابات المهمة للأمن المصري، والحدود المصرية بامتداداتها الإقليمية الطويلة ودور مصر الإقليمي والدولي، وعلاقاتها الحتمية بفلسطين وغزة، فقد ارتبط أمن مصر واستقرارها وبناؤها بنشوء القضية الفلسطينية وتطورها منذ عام 1948. ومن وقتها دخلت مصر في خمس حروب استنزفت الكثير من مواردها المادية والبشرية، حرب ،48 وحرب ،56 وحرب ،67 وحرب الاستنزاف وأخيراً حرب ،73 وما زالت منغمسة في تطوراتها حرباً وسلاماً. وحدودها مع غزة مجرد حدود اسمية أو شكلية، فهي غير محددة بحدود طبيعية.. إنها مجرد سور أسمنتي لا يزيد ارتفاعه على مترين بطول لا يزيد على أربعة عشر كيلومترا، ولا تتواجد فيه قوات أمنية مصرية كبيرة مما يسهل التسلل منه واختراقه وحفر الأنفاق تحته، ولا شك في أن ما حدث في الأيام الأخيرة من اجتياز لهذه الحدود في أعقاب الحصار الذي فرضته “إسرائيل" على قطاع غزة ما حرم سكانها من المواد الحياتية الأساسية، والقرار السياسي الذي اتخذته مصر وإعلان الرئيس محمد حسني مبارك أن مصر، لن تسمح بتجويع الفلسطينيين، هذا القرار تقف وراءه اعتبارات كثيرة أشرنا إليها، إلا أن هذا الوضع الجديد سيفرض مراجعة أمنية مصرية تأخذ في الاعتبار مصر كدولة تحكمها التزامات دولية، إلى جانب خصوصية العلاقة مع مصر، وعلى حركة حماس، أو من يسيطر على قطاع غزة أن يدرك هذه الحقيقة وإلا سيعرض العلاقات مع مصر للخطر بما ينعكس سلباً على مستقبل قطاع غزة. وأما الطرف الثالث والرئيسي والذي يتحكم في قطاع غزة فهو “إسرائيل"، التي تهدف ليس إلى إضعاف السلطة الفلسطينية فقط وأيضاً حماس، بل تهدف إلى تصفية القضية ذاتها وهذه المرة من خلال تعميق الخلافات بين القوتين الرئيسيتين فتح وحماس، وتحاول أن تتحكم في كل مقومات الحياة في غزة، أنها المستفيد الأول والأخير من تطورات الأزمة الغزية، وذلك من خلال السعي للتخلص من عبء غزة بالدفع بسكانها في اتجاه مصر بعد أن فشلت في القائها في بحر غزة، على حد تعبير رابين. المسألة من منظور “إسرائيل" تحمل العديد من التفسيرات، أولاً أن تصبح غزة مشكلة مصرية، وثانياً تعميق حالة الانقسام الفلسطينية، وثالثاً اللعب على ورقة المقاومة التي يمكن التحكم في قواعدها ومبادئها كما تريدها، فغزة مجرد مدينة صغيرة تقع كلها في مدى القوة العسكرية “الإسرائيلية" ومن ثم الاستفادة منها كورقة انتخابية “إسرائيلية" في الانتخابات القادمة، وهكذا ستظل غزة هدفاً عسكرياً “إسرائيلياً" أكثر منه هدفاً سياسياً. والطرف الرابع هو اللجنة الرباعية والمجتمع الدولي في عمومه، الذي ينظر إلى المسألة الغزية من منظور إنساني بحت، مجرد حالة إنسانية تحتاج إلى المساعدة اللازمة من غذاء ودواء، وهكذا تتحول القضية الفلسطينية في أحد أهم أبعادها إلى قضية إنسانية، وقوافل مساعدة تبحث عن بدائل ومنافذ لدخولها إلى قطاع غزة، وتدخل “إسرائيل" هنا باعتبارها المتحكمة في المنافذ والمعابر وتتحول إلى دولة إنسانية وحضارية بسماحها بدخول هذه القوافل. المسألة الغزية تعكس كل التناقضات والتباينات في مواقف الأطراف الفاعلة والمتحكمة في بوصلة القضية الفلسطينية، وللأسف فإن الفلسطينيين غير قادرين على التحرر من هذه التفاعلات، بل يسعون إليها، وهذا ما يفسر لنا تعقد الأزمة الغزية وعدم قدرة أطرافها على المبادرة الذاتية لأن قرارهم يتم في مطابخ صنع القرار الخارجية، وستظل الأزمة الفلسطينية مرهونة بدرجة التوافق والتلاقي في المواقف للأطراف الفاعلة ودول بعينها مثل مصر والسعودية وسوريا وإيران، وكذلك الموقف “الاسرائيلي" والأمريكي، والنظر إلى المسألة ليس من منظور غزة ولكن من منظور القضية الفلسطينية برمتها. وفي هذه المعادلة تأتي الخطوة الفلسطينية الأولى كأساس لأي تحرك إيجابي في حل الأزمة من جذورها، ولذلك على الفلسطينيين أن يتحرروا من نظرتهم إلى واقعهم من منظور حزبي ضيق، ثم أن يتحرروا من قيود التحالفات الإقليمية والدولية السلبية على قضيتهم، وكذلك أن يدركوا أين عمقهم الاستراتيجي والسياسي، وأن الصراع اليوم هو صراع حضاري وأن الفلسطينيين يريدون الأمن والسلام معاً، وبقدر الارتقاء بصراعهم إلى هذا المستوى بقدر الوصول إلى أهدافهم المشروعة، وبقدر تحول المقاومة إلى أسلوب حضاري بقدر تعرية الوجه الآخر ل"إسرائيل"، وإلزام المجتمع الدولي احترام إرادة الشعب الفلسطيني ونضاله. عن صحيفة الخليج الاماراتية 10/2/2008