وينتهي أفضل شهور الله.. يمضي رمضان بعد أن زادنا قرباً لله وحباً للخير.. وليس أمامنا إلا أن نردد: والله لسه بدري ياشهر الصيام.. شهر رددنا فيه بعشق عميق أجمل أغاني الشهر الفضيل.. وحوي ياوحوي.. إياحة.. رحت ياشعبان إياحة.. وحوينا الدار جيت يارمضان. هل هلالك.. والبدر أهو بان.. شهر مبارك.. وبقالو زمان، ما أحلي نهارك بالخير مليان.. وهذه الأغنية من تأليف حسن حلمي المانسترلي وألحان أحمد الشريف.. وغناء أحمد عبدالقادر.
ورددنا أيضاً كلمات أغنية محمد عبدالمطلب: رمضان جانا وفرحنا به من كلمات حسين طنطاوي وتلحين محمود الشريف.. ولا ننسي بشراك ياصايم للمبدع محمد فوزي.. أو أهو جه ياولاد للثلاثي المرح.. ورمضان قال أحمدوه لصباح ويابركة رمضان لمحمد رشدي.. ويافرحة رمضان لسعاد محمد. ** ولن ينسي جيلنا ومن سبقنا الأهازيج التي كنا نرددها ونحن نطوف بالبيوت بعد العشاء: لولا محمد لولا جينا.. يا الله الغفار ولا تعبنا رجلينا.. يا الله الغفار..
أو ندق علي طبولنا البسيطة المصنوعة من طين مصر: وحوي ياوحي إيوحا.. بنت السلطان لابسة القفطان.. بالأحمري.. والاخضري والأبيضي.. والأصفري وحوي ياوحوي أيوحا.. أعطونا العادة ربنا يخليكم.. الفانوس طقطق والعيال نامت.. تعبيراً عن طول إشعال الفانوس الذي جعل زجاجه يكاد ينكسر..
ولكن أكثر الأغاني تأثيراً فينا ونحن أطفال نقولها ونحن نودع الشهر الكريم.. كانت أغنية شريفة فاضل: والله لسه بدري ياشهر الصيام.
** وإذا كنا نودع اليوم شهر الخير والبركة.. فإننا أيضاً نودع العشر الأواخر.. وفيها تنشغل الأسرة المصرية بإعداد أو شراء كعك العيد.. وهي ما أطلق عليه كل المصريين: العشر الأواخر هي »العشر الحلق« أي كل ما هو مستدير من »حاجة العيد« الكعك والغريبة والقرص.
وإذا كانت معظم الأسر الآن تكتفي بشراء هذه الأمور في العشر الأواخر من رمضان.. فقد كانت الأسر زمان لها طقوس أخري.. كانت تشتري القمح.. وتغربله. ثم ترسله إلي الطاحونة لطحن هذا القمح..ونسهر في ساحة الطاحونة أطفالاً صغاراً ننتظر الدور علي قمحنا.. فإذا تحول إلي دقيق دافئ كنا نضعه في المغالق أو القفف أو المقاطف.
ونحمله إن كان قليلاً علي رؤوسنا: أو نضعه علي العربة الكارو لنعود إلي بيوتنا.. وهناك تتم عملية »نخل« هذا الدقيق ثم تقسيمه.. فهذا الجزء للكعك.. وهذا للغريبة، وذاك للبسكوت، وكمية للمحوجة أي القرصة الخضراء.. وكمية تخصص لعمل »السفضية« وهي أقل اصفراراً وأكثر انتفاشة من المحوجة.. وتتجمع فتيات وسيدات الأسرة لإعداد كل ذلك..
** وقد لا يتنبه آكل الكعك إلي نقش معين، ثابت لا يتغير، علي وجه كل كعكة.. إنه نقش قرص الشمس: دائرة تخرج منها خطوط ترمز إلي أشعة الشمس تنزل إلي حواف الكعكة.. وهو نقش عمره آلاف السنين.. من العصر الفرعوني، عندما كان المصري القديم يعبد الشمس.. وهي عندما آمن اخناتون بوحدانية الإله الواحد الأحد.. اتخذ الشمس رمزاً،و لم يتخذها إلهاً.
وجاءت مصر أديان عديدة: الموسوية. والمسيحية.. والإسلام.. ولكن احتفظ المصري بهذه النقوش علي كعك العيد.. فالفن تعبير عما يعتقده الإنسان. واحتفظ المصري بهذا المعني: الشمس المشرقة علي كل كعكة طوال هذه الألوف من السنين..
** وبعد أن تنتهي سيدات الدار كنا نحمل صاجات الكعك والبسكوت والغريبة وباقي هذه السلسلة الي أفران الحي، الذي كان لا يعرف النوم، في هذه العشرة الأواخر من رمضان.. وكانت الأمهات توصينا بمراقبة دخول وخروج الصاجات، منعاً للعبث أو تذهب صاجات بيت فلان لبيت علان. إذ لكل بيت أسراره في كمية السمن والتحويجة التي تصنع منها هذه وتلك من مستلزمات العيد.. وست البيت الذكية من كانت تنتهي من هذه الأعمال قبل ليلة العيد.
وكانت البيوت تتبادل أطباق الكعك حيث تتفاخر البيوت.. فهذا أفضل أم ذاك..هذا يذوب في الفم ولا يتحمل القضم.. أما هذا فقاسي.. يبطح الواحد، أو يكسر الأسنان. هذا سادة.. وهذا فيه من المكسرات الكثير.. ذاك بالسمن البلدي وهذا بالسمن البلدي المخلوط بالسمن الهولندي »النباتين« ولا يمكن صنع هذه الأمور بأي نوع من الزيوت.
** ومنذ صباح أول أيام العيد كان المسحراتي يطوف الحواري يدق علي »البازة« طبلته.. ومعه أحد أولاده يجر الحمار الذي يضع عليه.. ما تقدمه البيوت للمسحراتي إكرامية تسحيره لهم.. بجانب نفحة من المال.. وكميات من الكعك.. ** وكم يحن جيلنا لهذه الأيام وذكرياتها.. كم أفتقد سادات فران حارتنا.. وعم سليمان المسحراتي الكبير الذي جعلنا نحفظ السيرة الهلالية عاماً.. وسيرة الظاهر بيبرس عاماً.. وقبلهما سيرة الرسول الكريم عليه أطيب الصلاة والسلام. وكل عام وأنتم بخير.