هيفاء زنكنة استوقفني اعلان صقيل ملون، مزين، بصورة فتاة عراقية جميلة ترتدي زي الكشافة، منشور على موقع سبيرت اوف أميركا دوت نت ( روح امريكا) وموقع شركاء العراق (الاسم الجديد لموقع قوات الاحتلال)، يقول الاعلان : ' تعالوا واظهروا دعمكم لفتيات الكشافة في العراق.
ساعدوا فتيات بغداد. ان فتيات ومرشدات الكشافة العراقيات يطلبن منكم التبرع بمبلغ مالي مقابل علبة بسكويت (تبرعت بها فتيات الكشافة الامريكيات).
ستستخدم التبرعات لاقامة معسكر كشفي للفتيات فتعالوا وادعموهن.يوم الخميس السابع من حزيران من الساعة الثانية حتى الرابعة بعد الظهر'. ويبدو الاعلان المزين بصورة الفتاة ذات الابتسامة الطفولية الآسرة بريئا براءة مفرداته وألوانه، فمن منا لا يريد بناء علاقة الصداقة بين الشعوب، وهل هناك من هم أكثر تأهيلا من الفتيان والفتيات، والكشافة والمرشدات، بشكل خاص، للقيام بهذه المهمة الضرورية للاستقرار والسلام العالمي؟
غير ان مانراه على سطح الملصق الملون شيء واهداف الاعلان والنشاط المصاحب له شيء آخر. حيث لم يتم تصميم وطبع وتوزيع الملصق من قبل مجلس الكشافة والمرشدات العراقي بل من قبل 'مجلس المنطقة الخضراء'.
ويبين لنا الخبر المنشور مع الملصق على المواقع العسكرية الامريكية والمواقع المؤيدة للجيش الامريكي في 'حربه على الارهاب' و'تحرير العراق'، بان 'مجلس المنطقة الخضراء يطلب مساعدتك لاعادة تنشيط مشاركة فتيات وفتيان الكشافة في العراق. كان العراق من المؤسسين الاوائل للحركة الكشفية في المنطقة العربية غير انه فقد الإعتراف العالمي في التسعينات عندما غيّر صدام حسين، اهداف المنظمة العراقية.
غير ان 'مجلس المنطقة الخضراء' يعمل على تبني اعادة ولادة الحركة الكشفية في العراق كطريقة لتبني الفتوة وارشادهم وتعليمهم القيم والمهارات التي ستؤهلهم للنجاح في الحياة. ومع كثرة المهمات التي ستلقى على كاهل قيادة جيل العراقيين المقبل، ستكون هذه طريقة مهمة لتكوين شباب البلد ليكونوا قادة الغد. وادراكا لقيمة مفهوم كهذا في العراق، اسست مجموعة من موظفي وزارة الخارجية والسفارة الامريكية والقوات العسكرية وبضمنهم ضباط قوات مشاة البحرية (المارينز) بتأسيس 'مجلس المنطقة الخضراء' لتوفير الدعم لتجديد الكشافة العراقية'.
من قراءة الاعلان الترويجي اعلاه وبمعلومته المضللة عن سبب توقف نشاط الحركة الكشفية في فترة التسعينات متعاميا عن كونها فترة الحصار الجائر، يتبين بان تدريب فتيات وفتيان الكشافة العراقية وهم في ذلك العمر الغض المؤهل للتقبل والتعلم والتكوين، من قبل موظفين في وزارة الخارجية الامريكية والسفارة الامريكية والقوات العسكرية وبضمنهم ضباط قوات مشاة البحرية (المارينز)، هو أكثر من مجرد حرص شخصي على تطويرهم و(سواد عيونهم) كما نقول بالعامية، بل ان هناك اهدافا واضحة محددة لهذا الدعم والتشجيع.
اذ تأتي هذه النشاطات العسكرية ضمن اتفاقية الاطار الاستراتيجي الهادفة الى تطبيع الوجود الامبريالي الامريكي في العراق أمنيا واقتصاديا وثقافيا، وعبر الهيمنة على المجتمع المدني ومنظماته.
وتهدف هذه النشاطات بامرة القوات العسكرية وقوات المارينز سيئة الصيت، على المدى القريب، الى تجميل الوجه البشع لهذه القوات وأنسنة المستعمر ومسح جرائمه التي لا يزال يرتكبها سواء بشكل مباشر او غير مباشر عبر المتعاونين معه.
اما على المدى البعيد، فانها ولادراكها اهمية الحركة الكشفية وتحمس الكثير من الشباب للانضمام اليها (بلغ عدد المنتسبين 12000 عضوا وفق إحصاء المكتب الكشفي العالمي في 13 ديسمبر 1999)، ومع توفر الدعم المادي المشروط، ستصبح منظمة تعد القياديين وفق مواصفات المستعمر وعلى ابعد مسافة ممكنة من الروح الوطنية و'حب الوطن والدفاع عن حياضه'.
حسب تعريف الكاتب نجدت فتحي صفوت للكشافة في مقالة له عنوانها 'ذكريات عن الحركة الكشافية في العراق' . والمعروف ان مجلس الكشافة والمرشدات هو واحد من منظمات المجتمع المدني العراقي العريقة التي يعود تأسيسها الى عام 1918، وأرتبطت في أذهان الكثيرين بظاهرة الفتوة التي نشأت في العصر العباسي، وتميزها بقيم الشهامة والكرم و الشجاعة والدفاع عن الضعيف. وتأسست جمعية الكشافة الجديدة لأول مرة في بغداد، وسجلت عالميا عام 1922، وإنتشرت في كافة ارجاء العراق نظرا لحماس الشباب ورغبتهم بالانضمام اليها.
وفي سنة 1949، قامت وزارة المعارف باعادة تنظيم الكشافة باعتبارها حركة توجيهية تربوية فأوعزت إلى مديرية التربية البدنية بإقامة الدورات التحضيرية للقادة فأوفدت عشرة مدرسين إلى مركز التدريب الدولي ببريطانيا حيث قاموا اثر عودتهم بتنظيم دورات تدريبية للقادة، وشرعوا بتأليف فرق نموذجية في بغداد وباقي المدن، وفي عام 1954 أسهم قادة العراق في تأسيس المنظمة الكشفية العربية.
وحرص العراق على استضافة العديد من الأنشطة العربية واستمرت مشاركة الكشافة العراقية في معظم المخيمات والمؤتمرات واللقاءات والندوات العربية والعالمية، كما شارك في تنظيم بعضها، غير أن ظروف الحصار(1990 2003) اثرت على مشاركات الكشافة العراقية في الأنشطة الكشفية العربية والعالمية وادت الى تجميد عضويته.
وفي آذار/ مارس 2004، أعلن بيان لسلطة الاحتلال وبتوقيع الحاكم الامريكي بول بريمر عن تأسيس ' منظمة الكشافة العراقية التي هي امتداد للبرنامج الدولي الموسع لكشافة المحترفين. ويأتي تأسيس المنظمة عقب عمل دؤوب ومكثف لمتطوعي الكشافة الذين أبدوا استعدادا لدعم هذا الجهد. وسيكون مقر المنظمة في بغداد مع اقامة 5 مخيمات اخرى تتوزع في مناطق مختلفة في الجبال والبحيرات والغابات والاهوار والمناطق السهلية.'
وقد تحول نشاط الكشافة العراقية، منذ عام، من مدني يدار من قبل قادة الكشافة العراقيين، انفسهم، الى نشاط يختلط فيه المدني بادارة العسكري الامريكي.
ونموذج ذلك دورات التدريب الاسبوعية التي تتم في معسكر سلاير في المنطقة الخضراء، والمستخدمة دعائيا من قبل جهاز الاعلام العسكري. مثال ذلك: اصدار ' فيلق القوة المتعددة الجنسيات العراق' في معسكر فيكتوري، بيانا صحافيا بتاريخ 4 آب/أغسطس بعنوان ' فرق الكشافة العراقية تمارس أنشطتها في قصور صدام السابقة'. جاء في البيان، وبالتفصيل، كيف ان العسكريين الامريكيين، من كبيرهم الى صغيرهم، يتبرعون بوقتهم، لقضاء نهار مع الاطفال العراقيين، وحسب الرائد غاري، لكي يرى الاطفال: 'أنّ هذا المكان هو جزء من تاريخهم'.
بينما تضيف الملازم الأوّل جيسيكا بورتن، إحدى المتطوّعات لهذا النشاط الكشفي للأطفال 'إنّ هؤلاء الأطفال لم يكن حتى مسموحا لهم برؤية هذا المكان خلال فترة حكم الرئيس السابق صدام'. وكأن المنطقة الخضراء، وهي مقر كل ما يرمز الى بربرية الاحتلال وجرائمه، ساحة مفتوحة لكل العراقيين بكل طبقاتهم واجناسهم، يتنزهون فيها كيفما شاؤوا، وليست محصنة باسوار تمنع دخول حتى العملاء الاوفياء ما لم يحملوا التصريحات الخاصة، ذات الالوان المختلفة، كل حسب درجة خدمته.
والسؤال المهم هو كيف سيكون بامكان اطفالنا من البنين والبنات الذين 'قام 100 جندي امريكي بتخصيص جزء من وقتهم للقائهم كلّ يوم سبت'، بالتمييز ما بين هو حقيقي وزائف، مابين التضليل والواقع، وما بين الاجندة السياسية للمستعمر والروح الوطنية وحب الوطن؟ واذا ما تفحصنا حجم الجرائم التي ارتكبها المحتل في بلادنا، يصبح السؤال الاول هو: هل بامكان السفاح ان يكون مربيا فاضلا؟ على من تقع مسؤولية حماية اطفالنا من تلقين قتلة الشعوب؟
هذه المسؤولية الكبيرة في حماية اطفالنا تقع على كاهلنا جميعا كمواطنين، على الآباء والامهات، على مجلس الكشافة والمرشدات العراقي بتاريخه الاصيل والمنظمات المماثلة العربية والاسلامية، ولاجدوى من توقع أي شيء من 'الحكومة' وهي التي وقعت الاتفاقية الامنية واتفاقية الاطار الاستراتيجي مع العدو لتجدد مظاهر بقائه بيننا.