ما وراء تغيير الدستور الروسي محمد بن سعيد الفطيسي غابة من الأسئلة دارت حول الأهداف المستقبلية للخطوة الروسية التي تناولت تغيير الدستور الروسي وذلك من خلال خطوة تمديد الفترة الرئاسية في روسيا من 4 سنوات الى 6 سنوات , وقد كان الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف قد اقترح يوم الأربعاء الموافق 5 / 11 / 2008 م تمديد فترة الرئاسة الى 6 سنوات ، وفترة عضوية البرلمان الى 5 سنوات , وقال: إننا لا نتحدث عن إصلاح دستوري، ولكن عن تعديلات دستورية هامة بالفعل ، ولكنها تظل محددة ، لا تؤثر على الجوهر السياسي والقانوني للمؤسسات القائمة , وقد صوت لصالح إقرار مشروع هذا القانون أكثر من 86 في المائة من أعضاء المجلس الذي يغلب عليه حزب روسيا الموحدة , والذي يتزعمه الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين. ولكن أغلب المراقبين والمحللين الدوليين يتشككون , من ان هذه الخطوة ليست أكثر من محاولة مدروسة المعالم لإعادة القيصر الروسي فلاديمير بوتين الى الكرملين من جديد , وينظر الى ان تولي ميدفيديف المقرب جدا من بوتين الرئاسة الروسية في شهر مارس الماضي بمثابة مرحلة انتقالية قبل عودة بوتين الى الحكم عند انتهاء ولاية ميدفيديف , رغم ان هذا الأخير قد نفى ان يكون مشروع القانون يهدف الى التمهيد لعودته الى الحكم عند انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميدفيديف , او من خلال تقديم هذا الأخير استقالته تمهيدا للخطوة سالفة الذكر. والحقيقة ان هذه الفكرة كانت متداولة أثناء وجود الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين تحت قباب الكرملين بين العام 2001م - 2008 م , ولكن لم يكتب لها النجاح في ذلك الوقت كما هي في الوقت الراهن , بالرغم من ان هناك أكثر من خطوة باقية لإقرارها النهائي ومصادقتها, وكان بوتين قد حكم روسيا لدورتين متتاليتين وترك منصبه هذا العام بسبب حظر الدستور الروسي بقاء الرئيس في منصبه ثلاث دورات متتالية , وكان الرئيس ميدفيديف قد قال في الأسبوع الماضي إن من شأن هذه الخطوة منح الرئيس الوقت الكافي لإجراء الإصلاحات الضرورية , كما قال بوتين نفسه خلال مؤتمر صحفي مع رئيس وزراء فنلندا في العاصمة الروسية موسكو ان هذا التعديل الدستوري بمثابة أداة ستمكننا من ضمان سيادة روسيا وتطبيق الخطط الطويلة الأجل ولن يضر بالتطور الديمقراطي في روسيا بل على العكس سيرسخ من تطوره. ومن وجهة نظرنا الشخصية - فانه ليس هناك أكثر من احتمالين منطقيين لهذه الخطوة , وقد تناولهما اغلب المحللين والمراقبين للشأن الروسي بشكل موسع , أولهما التهيئة لاستقالة الرئيس الروسي الحالي ميدفيديف كما يشير الى ذلك الكثيرون في شهر ابريل من العام 2009م , تمهيدا لإعادة السلطة مرة أخرى للرئيس السابق فلاديمير بوتين الذي يشغل حاليا منصب رئيس الوزراء ، وقد قلل ميدفيديف وبوتين من أهمية هذه التكهنات , لكنهما لم ينفياها , رغم - أننا - لا نتوقع ان يحدث ذلك خلال السنة القادمة تحديدا , بل الاحتمال الأكبر ان يكون ذلك بداية من العام 2010م , وذلك لأسباب كثيرة , على رأسها دحض التكهنات السابقة وإعطاء الفرصة لميدفيديف والذي يعتبره بوتين امتدادا لشخصه , وليس هناك من ضرورة لتقديمه استقالته تمهيدا لعودته , ففي كلا الحالتين يظل بوتين الرجل الأول على سلم الهرم القيادي في روسيا الحديثة , والتي يرجع له تأسيسها وتوطيد أركانها وضخ دماء الحياة فيها. أما الاحتمال الآخر , وهو الاحتمال الأكثر ترجيحا في الوقت الحالي , وفي ظل المعطيات الراهنة , ونقصد استمرار ميدفيديف على كرسي الرئاسة للفترة المقررة له , مع التأكيد على عودة فلاديمير بوتين بعدها كرئيس شبه مطلق لروسيا الاتحادية الحديثة , وذلك من خلال الاحتمال الأكبر بان ينجح في البقاء كزعيم روسي لفترتين قادمتين بعد ميدفيديف , مدة كل منهما 6 سنوات , - أي - 12 سنة قادمة بعد انتهاء فترة الرئيس الروسي الحالي ميدفيديف. وللعلم فقد برزت دعوات كثيرة وقوية في فترات سابقة , وخصوصا بعد انتهاء الفترة الثانية لبوتين , تدعو لبقاء هذا الأخير كزعيم قومي لروسيا الحديثة , حيث قالت جماعة تدعى "من أجل بوتين" في ذلك الوقت , إنها تقدمت بعريضة تحمل توقيع 30 مليون روسي أعربوا عن تأييدهم لهذه الفكرة , وقد نجح بوتين بالفعل في إعادة الحياة الى شرايين الجسد الروسي المتهالك بعد سقوط الاتحاد السوفيتي , وذلك من خلال عدد من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية , والتي اعتبرها الكثيرون في روسيا خصوصا تحولا غير مسبوق في تاريخ الامبراطورية الروسية بعد سقوط العملاق الشيوعي الأحمر , ونجاح ملموس لرجل استطاع ان يبني وطنا قويا من الفراغ , ويعيد لروسيا هيبتها التي تلاشت بفعل عوامل النحت والتعرية الجيوسياسية , التي بنتها الولاياتالمتحدة الاميركية حولها خلال تلك الفترة السوداء من تاريخها. فبحسب بيانات مجلة "الايكونوميست" البريطانية فقد بلغ معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي في روسيا نحو 7% سنويا ابتداء من عام 2000م ، الأمر الذي يعني زيادة هذا الناتج بنحو50% خلال سبع سنوات من حكم بوتين , كما ان الاقتصاد الروسي حاليا هو احد اكبر عشر اقتصاديات في العالم , كما تمتلك روسيا حاليا أكثر من 500 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي مقابل لاشيء تقريبا عام 1998 م , وبلغت الاستثمارات الأجنبية نحو 45 مليار دولار وانعكس هذا على أبناء الطبقة المتوسطة في روسيا، إذ تحسن مستوى معيشة كثيرين منهم خلال فترة حكم بوتين , أما على الصعيد السياسي فقد نجح بوتين في وقف التدهور والتخبط الذي عانت منهما روسيا منذ نهاية حقبة التسعينات , حيث استطاع تكوين إدارة قوية للدولة , وبدلا من تراجع دور روسيا دوليا، عادت لتلعب من جديد دورا مؤثرا على رقعة الشطرنج الدولية. أما بحسب ما ترى التايمز فان قيادة بوتين لروسيا قد نجحت بشكل غير مسبوق في فرض الاستقرار على امة لم تعرف الاستقرار لحقب طويلة ، ونجحت في إعادة روسيا كقوة عالمية , ولهذا السبب قررت مجلة التايمز اختيار بوتين كأبرز شخصية في عام 2007 م , ولا يعني هذا كما تقول المجلة تأييدا او معارضة لبوتين، ولكن تعني اعترافا بتأثيره الواسع على الأوضاع في دولة بحجم وأهمية روسيا الاتحادية. ولهذا فقد ظل بوتين في أعين الكثير من الروس في الداخل والخارج بطلا قوميا وأبا روحيا ومؤسسا يستحق التقدير والاحترام للأمة الروسية الحديثة , وخصوصا في زمن السيادة والهيمنة الامبريالية الاميركية , والتي ينظر إليها ذلك الجيل الروسي المتطلع الى عودة أمجاد أمته على أنها المهدد الأكبر للطموحات الروسية القومية , وبالطبع فانه ليس هناك من شخص قادر على مواجهة تلك التهديدات وتحقيق تلك الطموحات الشرعية سوى الرئيس الروسي السابق , ورئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين , هذا بخلاف الانجازات سالفة الذكر والتي حققها بوتين خلال فترة بقائه في الكرملين , وينظر إليها اغلب الشباب والقوميين الروس على أنها تستحق التقدير والتصفيق. وهذا ما يجعلنا نؤكد على الفرص الكبيرة والسانحة للرئيس فلاديمير بوتين خلال السنوات القادمة من انتزاع ترشيحه لفترة رئاسية أولى بعد انتهاء فترة ميدفيديف او استقالته , والذي يدرك اغلب الروس من ان ذلك سيعيد فلاديمير بوتين من جديد الى سدة السلطة القيادية في روسيا الحديثة لفترة زمنية طويلة وربما تكون مطلقة , أكان ذلك بالاستفتاء الشعبي او التصويت البرلماني , حيث نتوقع ان يكون هناك العديد من المفاجآت القادمة التي يحملها بوتين لروسيا الحديثة وتحديدا على مستوى دستورها وقوانينها الفيدرالية , ومستقبل علاقاتها الجيوسياسية مع العالم. عن صحيفة الوطن العمانية 17/11/2008