* مالك التريكي عندما تعرفت على جون الاسكتلندي ذي الأصل الإيطالي، سرعان ما تبين لي أنه ينتمي إلى أقلية مسيحية في هذه البلاد. ليس لمجرد أنه كاثوليكي في مجتمع ذي تراث أنغليكاني. بل لأن المتدينين المسيحيين الذين لا يزالون يحافظون على دينهم هم أقلية ضئيلة في بريطانيا التي يجتاحها، مثل بقية بلدان أوروبا، طوفان عارم من المادية والدهرية والإلحاد. فاجأ جون ذات مرة القس أثناء حديثه معه بعد قداس الأحد، فقال له ما معناه: إنه لم يبق لدينا دين يا أبانا. ما هذا الدين الذي يتقلب حسب تقلبات الرأي العام، مغيرا موقفه حتى في مسائل الحلال والحرام؟ فإذا أصبح الجمهور يرى مثلا أن الشذوذ الجنسي أمر طبيعي، حاولت الكنيسة التكيف مع هذه الحقيقة السوسيولوجية فقبلت الشاذين في صفوفها، بل ورضيت أن يكون منهم قساوسة ورهبان! أفلا نرى إلى المسلمين؟ إن الحلال في دينهم بيّن والحرام بيّن. أليس من واجبنا نحن أيضا أن نصدع بتعاليم المسيحية كما هي، بصرف النظر عن مدى 'شعبية' هذه التعاليم ومدى مصادفتها لأهواء البشر؟ لا يعني هذا أن جون اعتنق الإسلام، إلا أن المقارنة زادت من قلقه بشأن ما يعدّه تساهلا من الكنيسة في أصول الدين المسيحي. ولكن رغم هذا التساهل، ورغم إقفار كثير من الكنائس من المصلين إلى حد اضطرارها إلى نشر إعلانات تقول إن هنالك قرب الكنيسة مرآبا واسعا للسيارات وإنه يعقب القداس توزيع للحلويات والمشروبات، ورغم تضاؤل شأن الدين في الحياة الخاصة إلى حد عدم تردد نسبة كبيرة من المواطنين في تعريف أنفسهم بأنهم ملحدون، فإن نخبة الإلحاد، التي تضم مشاهير من المثقفين والعلماء والفنانين، قد بدأت منذ مدة في شن حملة ثقافية وإعلامية توهم بأن المجتمع البريطاني ينوء تحت نير دكتاتورية دينية متزمتة خانقة لحرية الرأي و التعبير. وهكذا فإن ما يعرف منذ بضعة عقود في الولاياتالمتحدة باسم 'الحروب الثقافية' قد تحول في بريطانيا إلى طبعة 'ما بعد حداثية' من 'الحروب الدينية' التي عرفتها أوروبا من أوائل القرن السادس عشر حتى منتصف القرن السابع عشر. لكنها حروب دينية يشنها الملحدون لا المتدينون!
لقد اختفى الدين من الحياة العامة في بريطانيا إلى حد تجنب الساسة التعبير عن أية مواقف أو مشاعر دينية. حتى أن توني بلير كان يتحاشى، طيلة سيرته السياسية في المعارضة ثم في الحكم، الإشارة من قريب أو بعيد لعقيدته الدينية (بخلاف حليفه بوش مثلا). ولهذا عندما سئل بنوع من التهكم، قبيل غزو العراق، إن كان قد صلى مع بوش، بدا عليه الحرج وسارع إلى النفي. أما مستشاره الإعلامي فقد اشتهر بقوله للصحافيين: 'نحن لا نخوض في المسائل الإلهية'.
ولم يصبح بلير حرا في التعبير عن مشاعره الدينية إلا بعد مغادرته داوننغ ستريت، حيث أعلن تحوله من المذهب الأنغليكاني إلى المذهب الكاثوليكي. بل إنه أنشأ أخيرا 'مؤسسة بلير الإيمانية' وصار يلقي المحاضرات في الولاياتالمتحدة حول مسائل الدين والعقيدة! كما أن التأويل الإلحادي للنظرية الداروينية (علما أن هنالك من يرى إمكانا لتأويل إيماني لها) هو الحقيقة الوحيدة التي تجلها النخبة حتى غدت المطلق الأوحد في ثقافة لا تؤمن عادة إلا بالنسبي، كما تشهد بذلك الاحتفالات الثقافية والإعلامية الكبرى هذا العام بالمئوية الثانية لمولد داروين. حتى أن فئة قليلة فقط ما زالت تجرؤ على الصدع بأن الله سبحانه هو خالق الكون والبشر، وبأننا كلنا من آدم وآدم من تراب، وحتى أن المدارس لم تعد تستطيع ذكر حقيقة الخلق الإلهي إلا بحسبانها قصة توراتية مجازية لا يجوز أن تفهم فهما حرفيا.. لقد تضاءل شأن الدين المسيحي في بريطانيا إلى حد أن كبير أساقفة كانتربري أدلى بتصريح لا سابق له أواخر الشهر الماضي أعرب فيه عن الامتنان لمسلمي بريطانيا لما لهم من 'دور هام في إعادة الدين إلى قلب الحياة العامة' في مجتمع 'تسوده المادية' وأصبح 'لا يتقبل المتدينين'. لكن رغم كل هذا، ورغم ما لثقافة الإلحاد من السطوة، فإن النخبة من المثقفين الملحدين مستمرة في شن حملتها الثقافية والدعائية التي بلغت حد تسيير قوافل مما أصبح يسمى 'أوتوبيسات الإلحاد'! وقد جابت هذه الحافلات مدن بريطانيا وإسبانيا وألمانيا ومن المتوقع أن تصل إلى إيطاليا وكندا وأستراليا. *القدس العربي -19/4/2009