البحر المتوسط.. مستقبل شمال إفريقيا د. خالد عبدالعظيم انعقد مؤتمر برشلونة في عام1995 للبحث في آليات ممكنة للمشاركة الأوروبية المتوسطية ولكن الآمال المرجوة من هذا المؤتمر لم تتحقق تماما, لاسباب من ابرزها ان الأوروبيين في ذلك التاريخ كانوا ينظرون وبحنين غامر إلي شرق أوروبا الذي انفصل عن غربها لقرابة اربعين عاما, وبالتالي لم يكن من الممكن للمشاركة الأوروبية المتوسطية ان يكون لها الاولوية علي ادماج شرق اوروبا في الاتحاد الأوروبي وهو ما معناه أنه باكتمال البنيان المؤسسي للاتحاد الأوروبي شرقا وغربا تعود الاولوية والأهمية لتعاون أوروبي متوسطي. ولكن علينا ان ندرك ان مشروع الاتحاد المتوسطي محل الدراسة حاليا يعكس صراع نفوذ محتدم بين أكبر ثلاث دول داخل الاتحاد الأوروبي, اذ ان فرنسا تحاول موازنة النفوذ الاقتصادي الهائل لالمانيا الموحدة وبريطانيا الاطلنطية التوجه, اذ تسعي السياسة الفرنسية إلي تجميع دول جنوب أوروبا وهي دول أوروبا المتوسطية في تكتل اقتصادي واحد يستثمر في منطقة شمال افريقيا, وهو ما معناه صراحة ان أوروبا2008 ليست أوروبا1995, وهو ما معناه في التحليل النهائي أن منطقة البحر المتوسط وربما للسنوات العشر المقبلة يمكن ان تكون مركز الثقل في السياسة الخارجية الفرنسية وهو امتداد زمني يسمح ببناء تعاون اقليمي متوسطي مستقر وراسخ. وبذلك وقد اقترب ميعاد أول زيارة دولة لمصر يقوم بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي سيكون من فطنة السياسة المصرية التعامل ليس فقط علي اساس ترتيبات برشلونة الاقتصادية ومبادرة الجوار المتوسطي التي اطلقها الاتحاد الأوروبي وانما كذلك علي اساس ان الاتحاد المتوسطي هو مشروع مستقبلي واعد وربما أكثر رسوخا لانه لاينبني علي هياكل تفاوضية مبعثرة وانما علي اساس ارادة سياسية موحدة تتسم بالاصرار والاستمرار عبر آلية قرار وتشاور علي اعلي مستوي سياسي هو قمة دورية للتشاور بين رؤساء دول مع وجود كذلك سكرتاريات للمتابعة التفصيلية للمشروعات. وبذلك فنحن امام ارادة سياسية موحدة تنمو وتتطور باصرار في البحر المتوسط وركائزها زعماء دول, وذلك هو الجانب الاقوي والابرز في هذا المشروع الاقليمي الكبير. من هذا المنظور الرئاسي الذي يعكس اعلي درجات التفاعل السياسي بين الدول يتم الاعداد حاليا بتمهل وموضوعية لتأسيس اتحاد متوسطي ليس ببنود نظرية منصوص عليها مسبقا في أوراق معاهدة سوف تئول إلي الإدراج لانها لن تصمد لآليات التجرية والواقع الميداني! وإنما التأسيس يتم دونما نص مكتوب وانما عبر إطار تفاوضي مرن وحيوي يبني التوافق بشكل ديمقراطي متدرج زمنيا ويراعي التوازن بين مصالح الاطراف المعنية, إذ إن نجاح المشروعات الاقليمية الكبري مرتبط اساسا ببناء التوافق السياسي, وهو أمر يحتاج وقتا وتشاورا ومهارة عالية لتفادي العوائق التي يمكن ان توقف المشروع في بدايته أو في بعض مراحله وهذا هو ما تدركه تماما الدبلوماسية الفرنسية التي تتحرك بحذر واضح لانها علي دراية كاملة بخلافات النظم السياسية من منطقة شمال افريقيا. من الجدير بالذكر في هذا السياق ان الاتحاد الأوروبي يوشك قبل نهاية هذا العام ان يقوم بتوقيع اتفاقية متكاملة للتجارة الحرة مع منطقة مجلس التعاون الخليجي, وهو ما سوف يؤدي إلي ازدهار حركة التجارة بين الخليج وأوروبا عبر البحر المتوسط, وهو تطور لاشك ان مصر معنية به وفي الصميم باعتبارها دولة الممرات المائية بين الشمال والجنوب. وبذلك ولاعتبارات فترة التأسيس الأولي فلا يمكن منطقيا صياغة النص التشريعي المؤسسي للاتحاد المتوسطي إلا بعد فترة من التفاعل والتجربة, وذلك كان نهج الاتحاد الأوروبي ذاته وهو نهج تجريبي تفاوضي ديمقراطي مثمر, ويتسق ذلك النهج مع موقف الدبلوماسية الأوروبية بشكل عام والتي لم تعد تميل إلي التسرع في صياغة المعاهدات المكتوبة فاحيانا يكون نص المعاهدة المكتوبة هو العقبة الرئيسية كما حدث إبان صياغة معاهدة الدستور الأوروبي التي رفضت عام2005, وهو الرفض المدوي الذي ادي بخبراء القانون الدولي العام الأوروبيين إلي صياغة الخطوط الرئيسية للمعاهدة الجديدة عام2007 باعتبارها وثيقة جامدة وانما باعتبارها وثيقة حية مرنة جدا بما يسمح بادخال العديد من التعديلات بعد مفاوضات ماراثونية في بروكسل الصيف الماضي, وكان هذا الاسلوب الحذر والمرن والذي لايخلو من درجة ما من الدهاء السياسي هو الاسلوب الارجح اذ تم بالفعل القبول بالمعاهدة من جانب جميع الشركاء الأوروبيين وتفكير الرئيس ساركوزي ذاته يسير في نفس هذا الاتجاه الذي يتلافي مشكلات النص المكتوب حينما يكون هناك توتر في العلاقات بين دولتين, اذ رفض إبرام معاهدة صداقة مع دولة ما لانه يعتبر ان الصداقة ليست كلمات علي الأوراق وانما مواقف فعلية علي ارض الواقع توثق أواصر الصداقة بين الدول. وبذلك فنحن امام نهج دبلوماسي مؤداه ان عدم وجود معاهدات مكتوبة حتي الآن شارعة لآليات الاتحاد المتوسطي لايعني غموضا ولا ابهاما ولا افتقادا للرؤية والارادة, بل ان العكس هو الصحيح! اذ ان ذلك هو نهج الدبلوماسية الأوروبية المعاصرة حينما تحرص علي تحقيق نجاح لمشروع يهمها نجاحه رغم وجود عوائق وعراقيل تماما كما حدث بالنسبة للاتحاد الأوروبي, اذ إن العقلية الأوروبية هي عقلية تجريبية منهجية تقيس النجاح ميدانيا وخطوة بخطوة بناء علي مفاوضات مكثفة وتشاور مستمر, وحينما تتهيأ تماما اجواء التوافق السياسي بين شركاء المشروع الاقليمي تبدأ صياغة نص المعاهدة, نص يلتزم به الجميع عن اقتناع كامل. ان الاتحاد المتوسطي هو حقيقة فرصة قد لاتتكرر للشروع في تحديث نظم الادارة والانتاج والتسويق في مؤسسات القطاع الخاصة في منطقة شمال افريقيا بأكملها, وهو ما يدعو إلي الاعتقاد اننا قد نكون حقا امام لحظة من لحظات التاريخ السياسي تبدو فيها منطقة شمال افريقيا بأكملها مرشحة لطفرة تحديث اقتصادي ومؤسسي. عن صحيفة الاهرام المصرية 12/12/2007