ظهرت المعالم الأولية لمؤسسات المجتمع المدنى فى مصر فى القرن التاسع عشر، ومثلت الأهداف الوطنية مجمل رؤيتها ودورها ممثلة فى الدستور والاستقلال والكفاح الوطنى. ثم حدثت مرحلة انقطاع فى الفترة من 1952 الى 1970 من خلال هيمنة التنظيم السياسى الواحد، إلى أن بدأت الخبرة السياسية لفاعليات التعددية السياسية وسياسة الانفتاح الاقتصادى فى السبعينات تنعكس على مؤسسات المجتمع المدنى وتمثل أهمها فى ظهور النقابات المهنية والجمعيات الأهلية والنقابات العمالية وجماعات رجال الأعمال والغرف التجارية والصناعية والاتحادات الرياضية وغير ذلك من الأنشطة التطوعية غير الحكومية.
هذا إلى جانب منظمات الدفاع ومناصرة الحقوق: ويقصد بها بشكل أساسى منظمات حقوق الإنسان، والتى شهدت تزايدا ملحوظا من حيث العدد منذ بداية الثمانينات وحتى الأن. لكن وعلى الرغم من هذا التزايد العددى والتعددية الكمية، إلا إنها لم تنعكس بشكل عملى ملموس على أرض الواقع مفتقدة لفاعلية الدور، ويرجع ذلك إلى أن كافة تلك المنظمات دائما ما خلطت ما بين الخط السياسى والمدنى فى عملها، وهو ما نتج عنه إزدواجية فى المعايير وإختلاف الأهداف وعدم وضوح الرؤية لكيفية تحقيقها، من ثم غياب المصداقية عن خطابها، وهو ما جعل الكثير يبتعد عنها ويشك فيما ورائها. دذات السبب هو نفسه السر وراء عدم وصولها للطبقات الدنيا والمهمشة فى المجتمعات العاملة بها، ومن ثم ظلت المشكلات التى تعانيها تلك الطبقات مستمرة، بل وتفاقمت رغم أن دورها كان من المفترض أن يكون المساهمة مع الحكومات فى حلها، حيث إنه ومن المفترض أيضا إنها تعمل على الجانب المدنى فقط. على هذا فإن تلافى الوقوع فى أوجه القصور تلك والخاصة بعمل المنظمات المدنية داخل المجتمعات العربية قد أصبح ضرورة ملحة، وذلك ربما يأتى من خلال تسليط الضوء على بعض النماذج والتجارب، التى أستفادت من تراكم الخبرات السابقة للعمل المدنى والتطوعى، إضافة إلى مجموعة الخبرات الدولية فى ذات المجال، وذلك من أجل الإشادة بها من أجل التشجيع على بذل المزيد من الجهد بما فيه الخير للمجتمع، وهو واحد من أهم أدوار الإعلام البناء.
وهذا النموذج المشار اإليه اليوم هو المؤسسة التنموية للسيدات المصريات للعمل الحر (أوتاد مصر)، وهى مؤسسة نسائية مقرها القاهرة ترأسها مجموعة من سيدات الأعمال، كذا فهى تعد جزءا من مؤسسة سيدات العمال فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتى تضم حاليا 8دول أعضاء هى: تونس، المغرب، الكويت، فلسطين، قطر، البحرين، دبى، بل وتجرى حاليا مفاوضات لضم أربع دول أخرى.
ويعد هذا هو أول وأبرز أسباب تميز عمل المؤسسة، حيث أضافت الفروق بين الدول الأعضاء منظور أوسع وأشمل وأعمق لمشاريعها وخططها المستقبلية، بل أن المؤسسة قد أصبحت أقرب إلى منتدى مثالى لمشاركة الأفكار وتبادلها، بما نجم عنه نجاح أكبر. أيضا فهو تطبيق عملى لمفهوم الشراكات المجتمعية والتأكيد أهمية دورها فى دفع عجلة التنمية داخل المجتمع. أيضا يأتى ومن أهم أسباب التميز الرئيسية وإستحقاق الإشادة أن المؤسسة قد إتخذت من قضايا التعليم والصحة وتمكين المرأة مجتمعيا كركائز أساسية لعملها، هذا مع التركيز على أهمية نشر وتعميم ثقافة العمل الحر بين أفراد المجتمع، وهى فى ذلك تتماشى مع أهم متطلبات التنمية الحديثة، والتى أوصى بها برنامج الأممالمتحدة الإنمائى من خلال تقاريره السنوية حول (التنمية الإنسانية فى العالم العربى).
كذا فإن نشاط المؤسسة قد جاء كتجسيد عملى لفكر العمل التطوعى التنموى الهادف إلى بناء قوى مجتمعية قادرة على تنمية نفسها ذاتيا، من أجل حمل مجموعة من الأعباء الثقيلة الملقاة على كاهل الحكومات وحدها، وهذا من خلال تعددية أبعاد الأهداف المرجو تحقيقها من نشاطات المؤسسة، بما أضفى عليها فكرة الشمولية فى تلبية متطلبات أفراد المجتمع. فعلى جانب الإهتمام بقضايا التعليم قدمت أوتاد برنامج تعليمى متكامل عبارة عن دبلومة فى الإدارة معتمدة من معهد بيرسون فى أنجلترا، وهى شهادة يمكن إستخدامها للحصول على الماجستير، ومعترف بها من 110دولة حول العالم، وهذا البرنامج يعد فريدا من نوعه ومصمما ليعطى الطالب تجربة تدريبية موسعة على حالات دراسية وتجارب عملية، وسيبدأ تطبيقه أوائل العام القادم 2009، وستمنحه أوتاد بالإشتراك مع الجامعات المحلية ومعاهد التدريب الإقليمية.
أما على مستوى الصحة فقد عكست (أوتاد) رؤية المجتمع سواء المحلى أو الإقليمى أو الدولى حول أهمية خلق مجتمعات قادرة صحيا على المشاركة التنموية الفعالة. وقد حمل شهر أكتوبر الماضى بدايات دخول أوتاد لمجال الصحة مع التركيز على صحة المرأة بما تمثله من أساس المجتمع ومدخل رئيسى للحفاظ على سلامة وأمان أفراده، حيث طرحت مجموعة من الأفكار والرؤى المبتكرة والمختلفة من خلال برنامج توعية حول مرض سرطان الثدى، على ان يبدأ أولى مراحله العملية مع مطلع العام الجديد، أيضا عن طريق مجموعة من الشراكات الحكومية والمدنية. ونحو تعزيز قدرات أفراد المجتمع وتمكين المرأة إجتماعيا من خلال نشر فكر العمل الحر كمتطلب تنموى حديث وتوجه حكومى جديد.. قامت (أوتاد) بتدشين مشروعها التدريبى الأول، والذى يأتى من خلال برنامج تدريب مجتمعى على مستوى الأفراد، ينفرد بتحقيق الفاعلية بين محترفين ذوى خبرة كبيرة وأفراد أقل خبرة عمليا، من خلال مجموعة من الأنشطة التعليمية الميدانية على أرض الواقع 100% وليس فى إطار نظرى.
كذا وفى هذا الإطار أيضا فسوف تشهد بدايات العام الجديد مجموعة ضخمة ومتنوعة من المشاريع التنموية القائمة على إتاحة وتوفير فرص عمل منزلية، من أجل إستغلال المهارات العملية، والتى ربما تمنعها الظروف المجتمعية المحيطة من التعبير عن نفسها وإثبات ذاتها، من ثم إتاحة فرصة أكبر لقطاع عريض خاصة من السيدات للبقاء ضمن قوى العمل الفاعلة فى المجتمع، ذلك بغض النظر عن أية معوقات شخصية أو إجتماعية تقف حائلا بينها وبين أدائها لدورها التنموى المطلوب.
خلاصة الحديث هو أن (أوتاد) ربما تكون وعلى الرغم من فترة عملها الوجيزة - نسبيا- داخل المجتمع، إلا إنها قد أستطاعت تقديم نموذج تنموى تطوعى قابل للإحتذاء به من جانب مجموعة المنظمات العاملة تحت مسمى النشاط المدنى، وهذا ليس من قبيل المجاملة ولا يدخل فى إطار الدعاية لعمل يستحق، لكن المراد فقط وكما أشرت سابقا تقديم القدوة الحسنة والنموذج، الذى يفتقده الكثيرين. كذا إيضاح معنى العمل والفكر التطوعى الخالص والذى غابت ملامحه، ومن ثم إفتقاده لفعاليته داخل المجتمعات وإبتعاده عن دوره المطلوب والمنوط به.