إسرائيل وآسيا الوسطى.. مصالح متبادلة أم استغلال صهيوني؟
*علاء فاروق
علاء فاروق تتمتع منطقة آسيا الوسطى المكونة من: "كازاخستان، أوزبكستان، طاجيكستان، تركمانستان، قرغيزستان" بأهمية استراتيجية وجيوسياسية كبيرة، وخاصة للمنطقة العربية.
إذ تعد المنطقة امتدادًا طبيعيًا للأمن القومي العربي، فضلاً عن ثرواتها الثمينة، سواء فيما يتعلق بإنتاجها من النفط أو المنتجات الزراعية.
ورغم هذه الأهمية إلا أن مستوى العلاقات بين المنطقة والمحيط العربي مازال ضعيفًا، والحضور العربي هناك باهت جدًا.
ولم يخرج عن إطار دبلوماسي في بعض البلدان هناك، وحتى التمثيل الدبلوماسي هناك لا يقوم بدور التقارب، وتعميق العلاقات بالقدر المطلوب.
ولم يتضح بعد لماذا هذا الحضور العربي الباهت في منطقة لها علاقات تاريخية وثقافية متشابهة ومترابطة، وبمنطقة أمدت هذا العالم بكنوز حضارية وثقافية لم تتكرر تاريخيًا، بل وأمدته أيضًا بكوكبة من العلماء كان لهم دور كبير في تأصيل العلوم المختلفة من حديث وطب وفلك وأدب...إلخ.
لكن يبدو أن هناك أمورًا كثيرة ومتشابكة لمحاولة استمرار هذا الضعف بين المنطقتين، بل والقطيعة إن لزم الأمر، ومن هذه الأمور ما يخص المنطقتين داخليًا، ومنها ما يتصل بالعالم الخارجي.
فمن الأمور الداخلية:
عدم التعرف عن قرب على المنطقة من قبل المستثمر العربي، ناهيك عن الباحث الذي لا يعرف إلا القشور عن هذه البلدان التاريخية، ما يجعل المستثمر يعزف عن هذه البيئة الاستثمارية.
كذلك الخمول العربي المعروف والمرتبط دائمًا بالسياسات العربية ذات الوجه الواحد غالبًا، أضف إلى ذلك ضعف الخطوط الجوية بين المنطقتين، ما يجعل الاستثمار هناك عبء لا طائل من ورائه من وجهة نظر المستثمر العربي، هذا بالنسبة للمنطقة العربية.
لكن بالنسبة لمنطقة آسيا الوسطى نفسها، فهي ما زالت بلاد حديثة الاستقلال– لم يمر على استقلالها أكثر من20 عامًا- وأنها عاشت ظروفًا صعبة من تحكم الشيوعية.
ومحاولة وضعها دائمًا تحت الوصاية القيصرية، ما عزلها نوعًا ما عن المنطقة العربية، كذلك هي منطقة مغلقة جغرافيًا، ما يساعد في إبعادها عن المنطقة العربية.
ومن الأمور الخارجية التي تعمل على إبعاد المستثمر العربي، أو تحجم تواجده هناك السياسات الغربية والإسرائيلية في المنطقة، والتي تنحصر في التواجد الأمريكي المبكر، والسعي الإسرائيلي لتثبيت الأقدام هناك بمساعدة أمريكية معروفة مهدت الطريق للشركات الإسرائيلية.
وعقدت الاتفاقيات بين هذه الدول، وعلى رأسها إسرائيل، وبين المنطقة فجر استقلالها، بسبق معروف وملحوظ للحضور العربي، ما جعل المنطقة، آسيا الوسطى، ترتبط أكثر وتتقرب إلى إسرائيل التي ساعدتها– من وجهة نظرها- اقتصاديًا في بدايات الاستقلال.
إسرائيل.. حضور دائم وقوي
أدى هذا الغياب العربي والإسلامي عن هذه المنطقة الهامة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى فتح الباب على مصراعيه لإسرائيل، في اختراق المنطقة من خلال إقامة مشروعات عملاقة.
وتقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية، وتكثيف الزيارات الرسمية في سباق مع الزمن لتثبيت أقدامها في مشروعات استثمارية قوية وصلت لحد الهيمنة في أهم المجالات مثل:
الطاقة "النفط والغاز الطبيعي"، خاصة أن هذه المنطقة غنية جدًا بمصادر الطاقة، ولها تصنيفات عالمية في استخراج النفط والغاز الطبيعي.
ولم تكتف إسرائيل بمجرد تواجد استثماري يشمل عدة شركات، لكنها سعت جاهدة إلى تواجد حقيقي ورسمي يسمح لها بتنفيذ أجندتها فيما بعد على كافة المستويات، ولتثبيت هذا التواجد أخذت حكومتها بعض الإجراءات، ومنها:
1- تنظيم هجرات يهودية من بعض تلك الجمهوريات إلى إسرائيل لاستغلال الموروث الديني في بناء جسور من العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
2- تبادلت إسرائيل العلاقات على المستوى الرسمي، والتي بدأت بقيام الوفود الحكومية في إسرائيل بزيارات لتلك الدول، وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية معها لتفتح الطريق أمام الشركات الإسرائيلية لغزو تلك الجمهوريات.
3- ولم تكن هذه الاتفاقيات مجرد أوراق تنسى مع الزمن كعادة الوضع العربي، لكنها- الحكومة الإسرائيلية- أنشأت غرفة للتجارة والصناعة، خاصة فقط بالعلاقات مع دول آسيا الوسطى.
4- بل وأنشأت بنك المعلومات الاقتصادية، ودليلاً للمجالات التي يستطيع الإسرائيليون الاستثمار فيها.
5- سنّت قوانين حماية تلك الاستثمارات، والإعفاءات الجمركية، والازدواج الضريبي وغيرها.
كل هذا عمل على جذب الشركات الإسرائيلية ومعها– طبعًا- الأفراد اليهود من دول كثيرة لتلك الجمهوريات، واستطاع رجال الأعمال هؤلاء فتح مؤسسات ومكاتب تجارية تشتري وتبيع وتستثمر في كل مجال تطاله أياديها.
وتركز هذه الشركات أعمالها في مجالات هامة وحيوية- كما ذكرنا- ومن أهمها: الطاقة (النفط والغاز الطبيعي)، المعادن والثروة الباطنية، والزراعة والثروة الحيوانية، والصناعة، والاتصالات، والبنوك والأنظمة المالية والمصرفية.
والإدارة والتنمية البشرية، والطب والرعاية الصحية، والفضاء والأبحاث العلمية وغيرها، وخلال سنوات قليلة جدًا ارتفع حجم التبادل التجاري بين تلك الدول وإسرائيل.
وظل هكذا في ازدياد حتى اليوم، وأصبح هناك تناسب طردي كلما انسحب المسثمر العربي تواجد نظيره الإسرائيلي بقوة وباستراتيجية مستقبلية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد الاقتصادي وفقط، لكن تم تنفيذ الأجندة الصهيونية المعروفة الأهداف والاستراتيجيات، فهي لم تأت من أجل "حفنة" بترول ومعادن.
بل الدور الأساسي الذي يساعد فيه جميع اليهود هو البعد العسكري الذي يصاحبه بعدًا استخباراتيًا، لاسيما وأن المنطقة قريبة من إيران العدو التاريخي لإسرائيل.
وساعد على هذا التواجد الاستخباراتي والعسكري ما قامت به الإدارة الأمريكية من حروب ضد ما أسمته "الإرهاب" أو الأصولية الإسلامية، ما عمل على توفير مظلة جديدة لإطلاق يد الكيان الصهيوني في نشاط عسكري استخباري محموم في آسيا الوسطى.
في وقت بدأت فيه واشنطن بتأسيس قواعد عسكرية في أوزبكستان وغيرها من هذه الدول ضمن استراتيجية تستهدف توسيع الهيمنة الأمريكية في آسيا وبسط نفوذها، واستكمال حلقات السيطرة والهيمنة العالمية.
استراتيجية التغلغل.. أوزبكستان نموذجًا
كما لاحظنا أن إسرائيل اهتمت منذ وقت مبكر باختراق دول آسيا الوسطى بأكملها، وكانت لديها استراتيجية متكاملة، لذلك تعتمد على التركيز في المرحلة الأولى على التغلغل الاقتصادي من خلال رجال الأعمال الصهاينة من شتى الجنسيات من جهة.
بعد أقل من ثلاثة أشهر على انهيار الاتحاد السوفيتي كانت إسرائيل قد نظمت في العاصمة الأوزبكية طشقند أول مؤتمر اقتصادي مشترك بينها وبين دول آسيا الوسطى في مارس 1992؛ لبحث احتياجات تلك الدول من المشروعات والمساعدات الاقتصادية.
والدور الذي يمكن أن تقوم به الدولة الصهيونية في تلبيتها، وخلال الشهور والأعوام التالية كانت هذه المشروعات قد بدأ يجري تنفيذها بالفعل، وبالنسبة لأوزبكستان.
فقد قام رئيسها، إسلام كريموف، بزيارة إلى إسرائيل في أكتوبر عام 1992، وقد تم الاتفاق على تطوير التعاون بين البلدين في شتى المجالات، وشملت المشروعات المشتركة في المجالات الحيوية التي ذكرناها سالفًا، وساهم فيها رجال الأعمال الجدد من يهود أوزبكستان.
وتم افتتاح فرع للوكالة اليهودية (سحتوت) في العاصمة الأوزبكية طشقند لتنظيم هجرة اليهود الأوزبك إلى إسرائيل، وكان عدد هؤلاء يبلغ نحو (120) ألفًا.
وتم بالفعل تهجير أكثر من سبعين ألفًا منهم، كما تم افتتاح مركز ثقافي صهيوني في طشقند يعمل بنشاط على الترويج للثقافة والأفكار الصهيونية بين اليهود وغيرهم من مواطني أوزبكستان، فضلاً عن تعليم اللغة العبرية.
وهكذا كانت إسرائيل تحقق تغلغلاً سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا متزايد الاتساع والعمق في أوزبكستان طوال التسعينيات، وضع أساسًا قويًا لقيام تعاون أمني واسع النطاق في النصف الثاني من العقد المنصرم وبرعاية أمريكية.
غير أن الكثير من جوانب هذه العلاقات ظل طي الكتمان إلى أن بدأت تتكشف في الآونة الأخيرة، والحقيقة لا نلوم على هذه الدول بقدر ما نلوم على السياسات العربية في تعاملها، وتعاطيه مع مثل هذا التواجد "الصهيوني" في منطقة تعتبر امتدادًا تاريخيًا وثقافيًا للعالم العربي الإسلامي.
عوامل ساعدت على التغلغل
وقد كانت هناك العديد من العوامل التي سهلت من مهمة إسرائيل في اختراق اقتصاديات مجموعة دول آسيا الوسطى، ونجمل هذه العوامل في:
- مساعدة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وترحيبها بالدور الصهيوني في آسيا الوسطى، وتدعيمه سياسيًا وماديًا؛ لأن هذا الدور يخدم مصالحها، في الهيمنة على المنطقة كخلفية من خلفيات الاستراتيجية الأمريكية الهادفة لمحاولة الهيمنة على العالم.
- عدم وجود عداء تاريخي بين إسرائيل ومنطقة آسيا الوسطى، ما يجعل إمكانات التعاون المشترك بين المنطقتين ممكنًا جدًا، ولا غبار عليه.
- غياب الدور العربي، وخاصة الإسلامي عن المنطقة، ما جعلها فريسة صائغة للمستثمر والسياسي الصهيوني، خاصة أن هذا الغياب مازال مستمرًا وحتى الحضور هو باهت جدًا، كما أسلفنا.
- ضعف الهيكل الأمني والسياسي والاقتصادي للمنطقة، ما شكل الفرصة الذهبية السانحة أمام إسرائيل في زيادة تقاربها مع الدول، سواء من حيث التعاون العسكري أو الاستثمارات الاقتصادية، أو تزويدها بالمعونة الفنية التي هي في أمس الحاجة إليها.
كما أن البعثات التدريبية يمكن أن تساهم في وجود صهيوني في المنطقة؛ لأن هذه الدول تحتاج إلى متخصصين في الاقتصاد والقانون والإدارة المالية وغيرها من المجالات، ويمكن لهذه البعثات أن تكون خير سفير لدولة الكيان في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى.
- التقارب الإسرائيلي التركي الذي مهد الطريق لدخول تل أبيب بقوة إلى الساحة الآسيوية، خاصة أن أنقرة لديها علاقات قوية مع هذه الدول.
إذ تقوم الدولة العبرية ببيع منتجاتها العسكرية التي يتم تصنيعها وتجميعها في تركيا إلى جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية السابقة ودول جنوب القوقاز (أذربيجان وجورجيا)، وكذلك أرمينيا.
وشكل هذا التقارب أيضًا التمهيد الأول الواضح والصريح لإسرائيل في تلك المنطقة، وخاصة في كازاخستان التي تمتلك ما يقارب ربع احتياطي العالم من اليورانيوم الخام.
مما دفع إسرائيل إلى النظر لهذه الثروة على أنها من الثروات المهددة نوويًا في ظل وجود دول وتيارات إسلامية في تلك المنطقة، فسعت إسرائيل مباشرة إلى شراء مجمع لمعالجة اليورانيوم في كازاخستان، والذي يُعدّ من أكبر مجمعات اليورانيوم في العالم.
- الفراغ الذي أحدثه الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفيتي، وسارعت إلى الاعتراف بدول آسيا الوسطى، وركزت خلال المرحلة الأولى من تاريخ علاقاتها بتلك الدول على الجانب الاقتصادي.
وسعت إلى السيطرة على مقومات دول آسيا الوسطى الاقتصادية كمرحلة أولى، ثم ربط اقتصادياتها بالاقتصاد الإسرائيلي، مما يجعل انفصاله عنه صعبًا للغاية إن لم يكن مستحيلاً، لذلك لا توفر إسرائيل أي فرصة للالتفاف الاقتصادي على تلك الدول.
تأثير الثورات على التواجد الإسرائيلي
ومؤخرًا اندلعت موجة ثورات عربية أسقطت أنظمة، ومنها ما هو ما زال قائمًا في الشارع، ولا شك أن هذه الثورات بزخمها الموجود أثرت على السياسة الإسرائيلية على الأقل في الشرق الأوسط.
ولكن هل يمكن لهذا التأثير أن يمتد إلى علاقات إسرائيل الدولية بالمناطق الأخرى البعيدة عن العالم العربي، ومنها علاقاتها بآسيا الوسطى.
أرى أن هذه الثورات ستؤثر على علاقات إسرائيل بآسيا الوسطى على الأقل على المستوى السياسي لانشغال إسرائيلي بقراءة جديدة لتاريخ المنطقة العربية بعد الثورات، وإسقاط أنظمة كانت حليفة لتل أبيب.
وطالما مكنت لمشروعاتها على أرضها، ما يجعله تغض الطرف بعض الوقت عن منطقة كآسيا الوسطى ليس لها أهمية بالنسية لإسرائيل كما هي المنطقة العربية.
أما على الجانب الاقتصادي لا أظن ستؤثر مثل هذه الثورات على التواجد الاستثماري هناك لانفصال رجال الأعمال– نوعًا ما- عن الأجندة السياسية، وتغليب "البراجماتية" عن الإشكاليات السياسية.
لكن يمكن أن تتأثر العلاقات، بل وتنقطع أيضًا على كافة تنوعاتها السياسية والاقتصادية إذا اندلعت ثورات في منطقة آسيا الوسطى على أيدي الإسلاميين الذين تتفق أيديولوجياتهم جميعًا على كراهية إسرائيل.
واعتبارها كيانًا غاصبًا يجب إبعاده من المنطقة، وهنا لا تستطيع إسرائيل فرض نفسها كعادتها حتى لو ساعدتها الإدارة الأمريكية؛ لأن السلطة وقتها ستكون مع الشعب الذي يدين أغلبيته بالإسلام.
وخلاصة القول:
إنه لولا الغياب العربي البائن ما استطاع اللوبي الصهيوني أن يمد نفوذه في هذه المنطقة، ما يؤكد ضرورة التحرك على المستويين العربي والإسلامي لإنقاذ هذه المنطقة من تمدد "السرطان" الإسرائيلي الذي يتذرع بالعلاقات الاقتصادية.
لذلك، فإنه من أجل مواجهة ذلك المخطط الصهيوني الخاص بالسيطرة على دول آسيا الوسطى وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، يتعين على الدول العربية والإسلامية مجتمعة إيجاد استراتيجية أمن قومي، أو مشروع قومي عربي، باعتبار أن وجود مثل ذلك المشروع الآن يمثل ضرورة وجود وبقاء.
حيث إن هذا التغلغل الصهيوني لا يقصد من علاقاته هذه نهب الثروات فقط، بل يسعى لقتل الهوية الإسلامية في نفوس أبناء هذه الدول.
ولابد للدور العربي أيضًا ألا يتوقف عند حد الحماسة والعاطفة فحسب، بل لابد أن تكون هناك تحركات مدروسة ومخططة لتوثيق العلاقات مع هذه الدول، وخاصة الاقتصادية والاستثمارية.
* رئيس وحدة دراسات آسيا الوسطى بمركز القاهرة للدراسات التركية.