تهويد القدس بين العويل والعمل المفترض! فايز رشيد لو أن الخزائن المحشوة ببيانات الشجب والاستنكار العربية للخطوات العملية والفعلية التي تمارسها اسرائيل على الأرض، حكت، لقالت: كفاكم شجبا فقد سئمت من عويلكم وندبكم وبكائياتكم الدائمة وعجزكم ومراثيكم! ينطبق هذا الوضع على الصعيدين: الفلسطيني أولا، والاسلامي ايضا، فبدلا ووفق ما تقول المقولة الفلسفية (عن أهمية اتخاذ خطوة عملية واحدة لأنها تظل أفضل من دستة نظريات) يقتصر ردنا على اسرائيل وخطواتها بالمزيد من بيانات الشجب والاستنكار، والتي بلغت وبلا مبالغة، أطنانا مؤلفة فوق أطنان أخرى! نقول ذلك بدواعي الألم والمرارة من واقع القدس المؤلم، التي يجري تهويدها على قدم وساق امام أعين الفلسطينيين والعرب والمسلمين، فمؤخرا، افتتحت اسرائيل كنيسا لها بالقرب من المسجد الأقصى، وردود الفعل من الأطراف الثلاثة: المزيد من بيانات الاستنكار. ما اقترفته اسرائيل من بناء كنيس لها، سياسة ليست جديدة، فمباشرة بعد احتلال المدينة المقدسة، اتخذ الكنيست الاسرائيلي قرارا بضم القدس الى اسرائيل. والأحزاب الاسرائيلية كلها بلا استثناء تجمع على ان القدس ستظل العاصمة الموحدة والأبدية لاسرائيل، وقد اقترف أحد المتطرفين الاسرائيليين حريقا في المسجد الأقصى أطاح منبره التاريخي، التحفة الأثرية المميزة، الذي صممه وبناه صلاح الدين الأيوبي، ومنذ عام 1967 وحتى هذه اللحظة، فإن اسرائيل تمارس سياسة ممنهجة في تهويد القدس، بدءا بالحفريات تحت المسجد الأقصى، من أجل تقويضه على طريق بناء الهيكل المزعوم، مرورا بشراء بيوت المدينة القديمة من ضعاف النفوس، والاستيلاء على مواقع أخرى بالقوة العسكرية. وممارسة السياسات الكفيلة بإيصال العرب في المدينة المقدسة الى وضع تنعدم فيه الآفاق لهم، حتى الحياتية منها بحيث يلجأون طواعية الى الخروج من مدينتهم، وصولا الى سحب الهويات المقدسية من كثيرين من أهلها، ووصولا الى بناء وتوسيع المستوطنات الاسرائيلية المحيطة بالقدسالشرقية، وسياسات أخرى غيرها، أصبحت واضحة ومكشوفة، وقد كُتب الكثير عنها. وبُحّت أصوات أهالي القدس وهم يحذرون الفلسطينيين والعرب والمسلمين من ضياع المدينة وتهويدها، بل الأصح ان أصواتهم ذهبت وهم يستنجدون بإخوتهم وأبناء قوميتهم العربية، وأبناء دينهم الحنيف، وكانت ردود الفعل في أغلب الأحيان تتمثل في بعض الاستجابة لما يطلبه المقدسيون، لكن الطابع العام لردود الفعل الفلسطينية والعربية والاسلامية تقتصر على المزيد من استهلاك الحبر، من أجل كتابة المزيد من بيانات الاستنكار! ولم تصل مطلقا الى مستوى الخطر الذي يحيق بالمدينة. المسجد الأقصى هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والقدس هي جوهرة التاريخ العربي الاسلامي، أرض الاسراء والمعراج للرسول الأعظم، وفيها كنيسة القيامة بكل معانيها ودلالاتها، وهي الأرض المقدسة للمسلمين وللمسيحيين على حد سواء، ولا يجوز التهاون أمام ما يجري لها من تهويد. وفي النظر لما تتخذه اسرائيل فيها، نجد أنفسنا امام خطة منظمة، أطرافها ثلاثة: الحكومة الاسرائيلية، والذي لا تستطيع فعله، تنفذه من خلال وبواسطة الجماعات الدينية الاسرائيلية واليهودية عموما، أما الطرف الثالث فهو المنظمات الصهيونية واليهودية في العالم أجمع اضافة الى الاغنياء اليهود، الذين يسخّرون أموالهم في خدمة الصهيونية وإسرائيل. كما فهمت من الإخوة المقدسيين، فإن الصراع في المدينة يجري على كل سنتميتر مربع من أرضها، ولذلك فإن مجابهة المخططات الاسرائيلية تقتضي خطة منظمة على الصعيدين: الرسمي والشعبي العربي. يوجد الكثير من الجمعيات والمنتديات والمؤتمرات السنوية باسم القدس، ولكن هل يوجد تنسيق كامل بين كل هذه مجتمعة؟ ما نسمعه ان مناشدة أهالي المدينة لتجنيد حملة لترميم البيوت القديمة لم تجد لها صدى بين الأغنياء العرب، في الحين الذي يستطيع فيه أحد المليونيرات او المليارديرات العرب وحده ترميم بيوت المدينة. ومع التقدير للذين تبرعوا لحديقة حيوانات لندن ولهذه المكتبة او تلك في العواصم الأوروبية، يمكنهم ايضا التبرع لمدينة القدس. لا نطالب الدول العربية بتجييش الجيوش لمنع اسرائيل بالقوة من مخططاتها لتهويد المدينة واستردادها على طريقة البطل الرمز صلاح الدين الأيوبي، فالذي يحلم بممارسة مثل هذه الطريقة في زمننا الرديء سيفسر قوله: بأنه يكتب خارج التاريخ والزمن وبلغة خشبية، وأنه يجهل الواقع ومعطياته... الخ هذه الأسطوانة، وإنما نطالب بفعل جدي عملي وواقعي وقابل للتنفيذ على أرض الواقع من خلال لجان حكومية وشعبية عربية في كافة العواصم العربية والاسلامية، تكون مرتبطة بلجنة مركزية في جامعة الدول العربية لها ممثلوها المعتمدون في لجان محلية خاصة في مدينة القدس. هذه اللجنة المركزية لها برنامجها التنفيذي الحالي، الذي يقوم على حل اشكالات أهالي بيت المقدس، بما يكفل صمودهم في المدينة وترميم بيوتهم، وبناء الأشكال الاجتماعية القادرة على تعزيز هذا الصمود، والرد على خطط تهويد المدينة بخطط مدروسة بعناية مع مستشارين قانونيين في المجالات المختلفة، ضمن خطة استراتيجية تؤكد وتهدف الى المحافظة على عروبة القدس. ولأن العام القادم هو عام القدس كمدينة ثقافية، فليجر ستغلال هذه المناسبة فلسطينيا وعربيا ودوليا، بما يؤكد على قرارات الأممالمتحدة المتعلقة بعروبة المدينة واعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأراضي المحتلة في عام ،1967 والعمل على استصدار قرارات من المنظمات الدولية والحقوقية العديدة، المستقلة والأخرى التابعة لها، تؤكد على كل القرارات السابقة المتعلقة باعتبار تراث المدينة تراثا انسانيا لا يجوز المساس به، والمتعلقة ايضا بعروبة المدينة. ليس المقصود في هذه المقالة وضع البرامج لإلزام لجان القدس المختلفة ببرامج عمل، وإنما لتوضيح الأساليب الكثيرة للفعل وللرد على المخططات الصهيونية بالخطوات العملية، وعدم اقتصار ردود الفعل على ما يجري في المدينة على البكاء والعويل وبيانات الشجب والاستنكار التي لا تُسمن ولا تغني من جوع... ولنتساءل: ما الذي استفدناه من عويل (أبو) عبد الله الصغير على ضياع الأندلس؟ عن صحيفة السفير اللبنانية 22/10/2008