مصر بحاجة لمجلس قومي للأمن الاقتصادي عاطف الغمري برزت الأهمية الفائقة لمفهوم الأمن القومي الاقتصادي في مصر، في خضم الأزمة المالية العاتية في الولاياتالمتحدة، وامتدادها إلى بقية العالم، والحديث عن دور مجالس الأمن الاقتصادي في أميركا وأوروبا، بعد أن بات الحديث يدور عن أن آثار الأزمة، إذا لم يتم احتواؤها في الحدود الآمنة، فلن تكون آثارا اقتصادية بحتة، بل قد تمس الأمن القومي للدولة. وكنت قد شرحت على هذه الصفحة قبل عامين، كيف أن تكوين مجلس مصري للأمن القومي، صار من الضرورات الحيوية، فإن تشخيص مسؤولين وخبراء في أميركا وأوروبا لأبعاد الأزمة الحالية، لم يستبعد تأثر دول العالم عامة بالأزمة. وقد ألقي ضوء أخير على الدور الذي بدأت تلعبه مثل هذه المجالس، وأبرزها المجلس القومي الاقتصادي في أميركا، والذي أنشئ عام 1993، كجزء من المكتب التنفيذي للرئيس الأميركي. وكان الغرض من إنشائه تقديم النصح والمشورة للرئيس في الأمور المتعلقة بالوضع الاقتصادي للبلاد، والسياسة الاقتصادية العالمية، والتنسيق بين الجهات المختصة بالسياسة الاقتصادية، من خلال فريق من الخبراء السياسيين. وحددت للمجلس أربع مهام: التنسيق في عملية صناعة القرار في الموضوعات الاقتصادية - الداخلية والدولية-، بلورة رؤية الجهات التي تقدم مشورتها للرئيس في السياسة الاقتصادية، وضمان انسجام البرامج السياسية مع الأهداف الاقتصادية للرئيس، ومراقبة تنفيذ السياسة الاقتصادية للدولة. ويقدم خبراء المجلس تقارير حول مختلف القضايا المرتبطة بالسياسة الاقتصادية والتي تشمل: الزراعة والتجارة والطاقة والأسواق المالية، والسياسة المالية، والرعاية الصحية، والعمالة، والأمن الاجتماعي. بينما كانت أجهزة المخابرات تقدم رؤيتها التي تربط بين الوضع الاقتصادي والأمن القومي، وترصد التهديدات التي تواجه أميركا، وقد تحدث فيها في الشهر الماضي توماس فينغار رئيس هيئة المخابرات القومية بقوله: إن وضع أميركا العالمي سوف يتقلص في السنوات الخمس عشرة المقبلة بمعدل متسارع، واستشهد فينغار بما سبق أن حذر منه ريتشارد كوبر الذي كان رئيسا للهيئة القومية للمخابرات في عهد كلينتون، وذلك قبل الأزمة المالية الحالية، والذي قال إن صورة أميركا سوف تضار بسبب مشكلات في القطاع المالي، وحذر من فقدان ثقة العالم في قيادة أميركا الاقتصادية. وقبل الأزمة المالية بوقت قصير ، أنشأت بريطانيا مجلسا مشابها هو مجلس الاقتصاد القومي، وقد دارت حوله مناقشات جدلية في البرلمان، وتساؤلات عمن سيقرر السياسة الاقتصادية، إلى أن حسم رئيس الوزراء الجدل، بتحديد المهام التقليدية لوزير الخزانة، والمهام المكلف بها المجلس، والتي شملت تقديم المقترحات في المشكلات المالية وما يخص الاقتراض والكساد. العالم إذن دخل في مناقشات وإيجاد آليات، تتوسع فيها دائرة البحث، وتتنوع الرؤى والتصورات التي تساعد على طرح خيارات تعمل على ابتداع حلول عاجلة وخلاقة لأزمة أخذت بخناق الجميع. وعلى ضوء ما يجرى في العالم، وحيث إن آثار الأزمة في أي دولة لا تعدو كونها حلقة في سلسلة متصلة، فإننا ننظر إلى ما يجرى في مصر من هذه الزاوية، ومهما كان ما يقوله البعض من أن مصر بعيدة عن التأثيرات الحادة للأزمة، فإننا كذلك لا يمكن أن نتجاهل آراء الخبراء في العالم من أن الأزمة ستطال الكل، حتى لو حملت نغمة تشاؤم كتلك التي قالها كنيث روغوف المسؤول الاقتصادي السابق بصندوق النقد الدولي، من أن الاقتصاد العالمي سيخسر من هذه الأزمة، وربما نكون متجهين إلى مرحلة كساد عالمي. لقد أصبح متفقا عليه أن القدرة الاقتصادية التنافسية، هي من أولى مكونات الأمن القومي، وأن السياسة والاقتصاد متداخلان في بعضهما البعض، خاصة بعد أن انزاحت الحدود بين الداخل والخارج، بفعل العولمة، وآليات ثورة المعلومات، وأن مفهوم الأمن القومي قد اتسعت مكوناته لتشمل: -الوضع الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي، والمصلحة في منع تفاقم أزمة البطالة، والسكن، أو تدهور المستوى المعيشي، وإيجاد حل خلاق للإحباط الاجتماعي العام. وإذا كانت الدعوة التي أيدتها سابقا، بضرورة وجود مجلس مصري للأمن القومي، فإن الأزمة المالية العالمية الراهنة، تحتاج بدورها مجلسا أو ما يشبهه، للأمن القومي الاقتصادي، قد يكون جزءا من مجلس الأمن القومي، أو معاونا في مجال تخصصه، ولا ينفرد فيه تيار بعينه بتحديد ما هي السياسة المطلوبة، خصوصا ونحن نشهد وجهات نظر متعارضة إلى حد كبير، بعضها يستبعد تماما تأثر مصر بالأزمة الحالية، وبعضها يلتزم جانب الحذر. إن الموقف يحتاج توسيع مجال الرؤية، وتنوع التصورات، وحشد مختلف الخبرات من أصحاب الاتجاهات المختلفة، خصوصا أصحاب المواقف المستقلة غير المقيدة بخطاب الالتزام الحزبي، لكي تتلاقى الآراء، وتطرح ما عندها وتتناقش، إلى أن يحدث من هذا كله بلورة خيارات تستند إلى علم ومنطق، وفي النهاية يكون من حق صاحب القرار أن يتخذ قراره. وحسبما قال أحد المحللين في وول ستريت: لا حل لأي دولة دون إبداع غير تقليدي، تطلقه شرارة احتكاك الآراء المتنوعة حتى وإن تعارضت. صحيح أن فكرة المجلس وإن كان مطلوبا منه التصدي لمهمة عاجلة هي تحييد أي آثار محتملة للأزمة العالمية، إلا أنه يمكن أن يكون بداية لوضع رؤية قومية للنهوض بمصر اقتصاديا. عن صحيفة الوطن القطرية 21/10/2008