خطاب النكد ومفاجأة الرئيس.. "حصري على التلفزيون المصري"!
* سليم عزوز
سليم عزوز لا أعرف هل نكد علينا الرئيس مبارك، أم أننا المسئولون عن حالة النكد هذه التي تحيط بي من كل جانب بعد عودتي من ميدان التحرير، وبعد خطابه الأخير.
فالرئيس ومنذ ثلاثين عاماً، لم يكن يوماً رجل مفاجآت، لكننا في هذه المرة انتظرنا منه أن ينصاع لإرادة الثوار، ويتنحى، فإذا به وبعد طول انتظار، وبعد ليلة قضيتها في الهواء الطلق، يعلن أنه باق إلى آخر يوم من ولايته.
كنت في ميدان التحرير عندما جاء رائد بالقوات المسلحة ليخبرنا بأن الرئيس مبارك سيعلن بعد قليل تنحيه عن السلطة، ومنح صلاحياته للجيش، وجدت أحد الأصدقاء وقد رفع يديه للسماء حامداً وشاكراً، وقد فاضت عيناه بالدمع، ولم أتحمس لذلك فانا أريد ان تنجح الثورة في تحقيق أهدافها بأن تنقلنا من الدولة البوليسية الى دولة القانون، لا الى دولة العسكر.
لكن زميلا طمأن فؤادي بأن هذا سيكون قطعاً لفترة انتقالية، ليتحقق ما قاله محمد حسنين هيكل في حواره ل'الجزيرة'، بأنه ينبغي أن يكون الجيش ضامنا لانتقال السلطة في مصر.
مما قاله لنا الضابط أن الرئيس سيلقي خطاباً بعد قليل، وغادرت ورهط من الزملاء الميدان الى احد المقاهي القريبة منه، وقد راعني أن المئات احتشدوا في عدة مقاهي مجاورة، أمام قناة 'الجزيرة'، كان جمال الريان يسأل احد ضيوفه من ميدان التحرير، بطريقته في طرح الأسئلة التي توحي أن القيامة قامت، وأننا دخلنا النار.
قال الضيف ان رائداً أخبر المتظاهرين بأن هناك مفاجأة سيعلنها الرئيس، وقال ريان أليس في قدوم لواء بالجيش الى ميدان التحرير وأخباركم بذلك بالأمر الخطير؟..
لكن الضيف عاد وأكد انه مجرد رائد. ومعلوم أن صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى هو رائد متقاعد لا أكثر، ومع هذا فقد كان يعاملنا على انه زعيم الأمة.
'الجزيرة'، ومنذ جمعة الغضب، وهي القناة المعتمدة في كثير من مقاهي القاهرة، وهي تتحدى قرار وزير الإعلام بمطاردتها عبر 'النايل سات' والتشويش عليها عبر الأقمار الاخرى، وقد تم إغلاق مكتبها وسحب اعتماد مراسليها.
فرفعوا بما فعلوا عنها الحرج، فكانت تقدم بثاً مباشراً من ميدان التحرير ومن الإسكندرية، وتحول الكثير من الصحافيين الى مراسلين غير معتمدين لها من قلب الميدان، وبدون قيود كتلك المفروضة على المراسل المعتمد.
في هذه الليلة ظهر عبد الفتاح فايد مدير مكتبها من القاهرة، لكن المكتب لا يزال مغلقاً، وفي اليوم الذي تم الدفع فيه بالبلطجية، والخيل والبغال والحمير، لميدان التحرير، وتم اقتحام مكتب القاهرة وتدمير محتوياته.
كما اقتحم هؤلاء فندق رمسيس هيلتون المجاور وطاردوا الصحافيين الأجانب، وهم بما فعلوا أكدوا أنه تم الدفع بهم من قبل قيادات تعرف ماذا تفعل، وليسوا مدفوعين بالحب العذري للنظام.
في لحظة خروجي من الميدان، وجدت من يحمل صورة لضابط بمباحث أمن الدولة، ويطالب بمحاكمته لأنه كان يقود البلطجية، وكان واضحاً ان الضابط تم التقاط الصورة له بعد (علقة موت) على يد الثوار جزاء وفاقاً، وقبل تسليمه للجيش. وفي مرات أخرى كنت أنفجر غيظاً عندما يطالب البعض بمعاملة راقية مع هؤلاء المجرمين عندما يقعون في يد الثوار، والحجة حتى لا نكون مثلهم.
هناك بيت شعر معتمد عندي نصه: والشر إن تلقه بالخير ضقت به.. وان تلقه بالشر ينحسم
لا بأس فهذا دليل على اختلاف الثقافات، وفي اليوم التالي ليوم الغضب، وبينما كنا في مظاهرة أمام نقابة الصحافيين، 'هبدني' عسكري بعصا على أم رأسي، وظللت ساعة أسعى للامساك به، وزملائي يحمونه، باعتباره 'عبد المأمور'، الى أن تم سحبه من المشهد.
وفي المساء وجدت أن الألم في أكثر من منطقة في جسدي، وقال لي من لهم سوابق في التعامل مع رجال البوليس أن أكثر من عسكري ضربوني في لحظة واحدة، لكني لم اشعر إلا بالضربة الأكثر إيلاما.
أبطال التحرير
عموماً فالأبطال في ثورة يناير المجيدة هم من أصروا على اقتحام ميدان التحرير وظلوا أكثر من ست ساعات ما بين كر وفر، وقد صُبت عليهم جهنم لكنهم ناضلوا حتى ولى رجال الشرطة الدبر، وأخلوا الميدان، وتركوا البلاد كلية.
كما أن الأبطال الحقيقيين أيضاً هم من قاوموا في موقعة المتحف، عندما حشد أهل الحكم المليشيات بهدف إخراجهم بالقوة.
فإذا بهؤلاء الأبطال يدحرون العدوان، في حرب لم تكن متكافئة، ونقلتها الفضائيات بالبث على الهواء مباشرة، فحركت العالم كله ضد هذا الإجرام المحتمي بالسلطة.
'الجزيرة' كانت تنقل تصريحات تفيد بأن الرئيس مبارك سيتنحى الليلة، ومنها ما هو نقلاً عن وكالة الاستخبارات الأمريكية، وتصريحات على لسان الأمين العام للحزب الحاكم الدكتور حسام بدراوي الذي استقال من الحزب لاحقا .
المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقد اجتماعاً برئاسة وزير الدفاع، فظننت ان الرئيس مبارك قد 'خلع'، فليس معقولاً ان يُعقد الاجتماع في غياب الرئيس الأعلى للمجلس إلا إذا كان قد غادر، البعض قال الى الإمارات.. والجائع يحلم بسوق الخبز.
مذيع بإحدى الفضائيات سألني وهل سينتهي الأمر عند حد أن يترك البلاد فلا تطالبون بمحاكمته على قتل الشباب في ميدان التحرير.أكثر ما في هذه الأيام ان الشعب فقد الثقة في الرئيس والرئيس فقد الثقة في الشعب وتلك هي المشكلة.
يقول الرئيس انه يريد أن يبقى حتى نهاية ولايته، فيكون الرد وما الذي يضمن ألا تكون 'هدنة معاوية' ومرحلة لالتقاط الأنفاس.
وعندما يحين الحين يتم إخراج الموظفين في اتحاد الإذاعة والتلفزيون وفي قطاع البترول، والعاملين لدى شركات رجال الأعمال فيهتفون له: لا تتنحّ، فيقول انه قرر أن يضحي بسعادته من اجل إسعاد الجماهير.
وما حدث عقب خطابه العاطفي يرفع من منسوب الشك، فقد قال انه سيظل حتى انتهاء مدة ولايته فقط، وانه يريد أن يدفن في مصر، ولأن العبد لله 'برميل عواطف' كما تعلمون فقد قلت وما المانع؟
لكن في ظهر اليوم التالي تم حشد ثلاثة آلاف موظف في ميدان مصطفى محمود بالمهندسين، وهو يهتفون: نعم لمبارك، وبعد قليل كان البلطجية يعتدون على المتظاهرين العُزل بالزجاجات الحارقة، والسكاكين، والسيوف، وقد دخلت الخيل الميدان، وكأننا في موقعة 'مرج دابق'!.
وعندما نقول للرئيس اننا مع الخروج الآمن، فقط عليه ان يخرج، فلا يصدقنا ولا نصدق أنفسنا، فنحن نتعامل على أن الحرب خدعة.
البيان رقم 1
ظللنا في الهواء الطلق نسمع للمحللين عبر 'الجزيرة'، وألقى الجيش البيان رقم (1) مما جعلنا على يقين من أن الرئيس سوف يعلن تسليمه صلاحياته للقوات المسلحة، وبعد قليل سنسمع عن مجلس رئاسي، وعن حكومة جديدة تطيح بأبو لمعة الفقي، وكنت اجهز نفسي لكي احل محله، في إطار حكومة إنقاذ وطني مؤقتة. لكن لدي طرقي في الاستمرار..
ومن المعلوم أن راتب رئيس قطاع الأخبار في تلفزيون الريادة الإعلامية هو 400 ألف جنيه في الشهر، فما بالكم براتب وزير الإعلام.
بعد قليل قيل ان الرئيس يجتمع مع نائبه ورئيس الحكومة الآن، وسوف يعلن خطاباً عبر التلفزيون المصري.. أحيانا أكتشف أن لهذا التلفزيون قيمة.
شريط الأخبار في 'الجزيرة' يوجد به خبر عن وفاة الفريق سعد الشاذلي، أحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة، فلم يمهله القدر ليشمت بمن سجنه ثلاث سنوات حبساً انفرادياً، لدرجة ان الرجل خشي أن يفقد النطق في السجن، فانشغل بحفظ القرآن الكريم.
نائب الرئيس اللواء عمر سليمان كان قد صرح بأن الدعوة الى رحيل مبارك لا تتفق مع طبيعة الشعب المصري، وأنه لا بد أن يكون خروج الرئيس لائقاً باعتباره واحدا من أبطال حرب أكتوبر..
فاته أن الشاذلي بطل من أبطال أكتوبر ومع ذلك تم سجنه، ورفض الرئيس أن يستخدم صلاحياته ويلغي الحكم، وكان المطلب أن يقدم الرجل التماساً بطلب العفو ويريق بكتابته كبرياءه العسكري، ورفض بإباء.
لقد انتظرنا خطاب الرئيس بالتنحي على شوق، وقيل انه سيعلنه في العاشرة مساء بتوقيت القاهرة، الحادية عشرة بتوقيت مكةالمكرمة..
لا تزال أمامنا ساعة بحالها، ذهبت خلالها الى ميدان التحرير وكانت الجماهير هناك محتشدة، تنتظر لحظة الاحتفال بالنصر.. تجاوز الحاضرون ثلاثة ملايين متظاهر، ولم يكن اليوم مليونياً، وفي النهار تساقطت الأمطار وبقي الثوار في أماكنهم.. حتى الأطفال بقوا.
جاءت الساعة العاشرة ولم يخطب الرئيس، وبعد ساعة إلا ربعاً نقلت 'الجزيرة' خطاب مبارك من التلفزيون المصري.. مما يؤكد بالفعل انه تلفزيون الريادة الإعلامية ، فمؤكد ان كثيراً من الفضائيات نقلت عنه.
تقدم الرئيس بتعزية لضحايا التحرير، وعندما قال انه سيحاكم المتورطين في الاعتداء عليهم، قلت: لا فائدة، سيظل يحكم كما وعد من قبل، 'ما دام هناك نفس يخرج وقلب ينبض'.. وقد ذكرنا بما قطعه من قبل بأنه سيحكم حتى نهاية ولايته ثم فوض عمر سليمان بصلاحيته.
مثل هذا التفويض كان يمثل الحد الأدنى لمطالب الثوار، والذي كان مرتبطا بمغادرته البلاد، لكن المشكلة أنه فوضه وهو هنا، ومن حقه أن يلغي التفويض في أي لحظة، فضلا عن انه اتخذ هذا القرار بعد أن كنا ننتظر منه التنحي ولا شيء غير التنحي.
لكن الدنيا حلوة خضرة، وقبل عودتي الى منزلي، ذهبت الى ميدان التحرير، وكان الثائرون يصرون على ضرورة إسقاط الرئيس، وكان هناك من يقول ان أكثر من ألفي مصري يرابطون أمام مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون.
لأنه تلفزيون الإفك، الذي سعي لتشويه الثورة، ووصف من يشاركون فيها بأنهم عملاء لجهات أجنبية وينفذون أجندتها مقابل وجبة كنتاكي.
في الميدان هناك لافتات كثيرة تحمل هذه العبارة: " الكذب حصري على التلفزيون المصري".