راحةٌ شفيفةٌ وهدوءٌ رفيفٌ يشبهُ نسائمَ الشمال العليلة حين ترف خطراتُها الباردة على نفس مغمومة في يوم قائظ،فينتعشُ صاحبُها،ويزداد ثقةً وحيويةً ونشاطاً وعطاءً... وليست تلك الراحةوالهدوء..وليست تلكم النسائم-أحبتي الكرام-غير "الإخلاص" في حياة الإنسان المؤمن.. ربما استهجنَ بعضُ الناس الحديثَ عن الإخلاص وعن جملة المبادىء والمُثل الإنسانية الرفيعة الأخرى التي تتفرع عنه،وقال بعضهم؛هذا حديث مملولٌ،فقد كلت أسماعُنا وأبصُارنا من طرحه،فلا جديدَ يُذكر فيه ولا قديمَ يستحق الذكر،أو كما ورد في المثل الروماني القديم؛"لاجديدَ تحت الشمس"..!!. وربما قال آخرون؛ يا أخي..إلى متى نبقى نتحدث عن الإخلاص..والغرغرة..والموت..والبرزخ..وهذه الروحانيات الهُلامية التي تستنجدون بها بين الفينة والأخرى و "تدغدغون" بها عواطفَ الجماهير المسكينة،تأساءً لها وتعزيةً عن واقعها الاجتماعي والسياسي والحضاري البائس،فلما عجزتم عن اللحوق بركب الأمم "المادية" المتقدمة،ووقفتم مشلولين أمام التخلف والشقاء الاجتماعي الذي تُسحق تحت مطارقه جماهيرُكم،رحتُم تُدارون ضَعفكَم وعجزكَم بالحديث عن هذه الهُلاميات المرَوحنة..!!. و ربما صاحَ نَبَهَةٌ آخرون من أصحاب الجدليات المادية الجدد الذين يظنون-عن بلاهة وخَرَف- أن سببَ وكستنا الحضارية هو التشبث بلغة "المحاريب" والقباب(كما صاح عبقري من عباقرتهم يعيش في ديار الغربة ويُشرف على مؤسسة فكرية لتنهيض الأمة..!!!)،ربما صاحوا؛إلى متى هذا "الأفيون" الذي تَتََخدرون به وتُخدرون به غيرَكم..؟؟!!!. والحق أن هذه النغمة البائرة،ربما لاقت رواجاً في بدايات زمن "التغريب" والغزو الفكري الذي هجم هجمتَه الشرسة،خاصةً في بداية العقود الأولى من القرن العشرين إلى السبعينات منه،تحت ضغط التفوق المادي الغربي الهائل،وأمام التخلف العربي الإسلامي الرهيب،وانبرى كثير من مفكرينا ومنظرينا(وأسماء بعضهم ساطعة في سماء الفكر) يُوعزون تخلفنا إلى "الدين" والتشبث بالدين وروحانيات الدين.وبَدَلَ أن يفصلوا بين ينابع الدين الصافية الرقراقة السامية وبين سوء فهم المسلمين وسوء تطبيقهم لدينهم-وهذا الذي وقع للأسف-فتتوجه سهامُ النقد والتمحيص لإساءة الفهم والتطبيق،انقلبوا على الدين ونصوصه،يرونها السببَ المباشر لبعبع التخلف كله..!!
حتى كتب أحدُهم(وهو روائي ومفكر مرموق)؛"إن التقدم التكنولوجي وغزو الفضاء،قد أحالَ الكتبَ الصفراءَالقديمة(ويقصد مضان المصادر الإسلامية ككتب الحديث والفقه والسيرة وما شابه)إلى المتاحف..!!"...ربما هذا الطرح لاقى رواجا بين الناس فترةًما،إلا أنه الآن-ولله الحمد والمنة-لم تعد هذه التقليعةُ من التقاليع التي لها بين الشباب المسلم المتعلم المثقف الواعي جعجعةً وطنيناً وهالةً كذي قبل...وعلى كل فاتهام المؤمنين بأنهم مخرفون ونقَلة أوهام ليس جديدا معاصرا في تاريخ البشرية..إنه ذات الاتهام الذي كان يقولُه عربُ الجزيرة العربية الكفار لصاحب الرسالة العصماء-عليه الصلاة والسلام- منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا،وتأمل إن شئتَ في قوله تعالى من سورة الأنعام:"حتى إذا جاؤوك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين"..!!.
إن الإنسانَ المسلمَ-والإنسان عموماً- قبضةٌ من طين ونفخةٌ من روح،وكما يحتاج جسدُهُ إلى إمدادات الغذاء والدواء والكساء والإيواء وباقي الرغَبَات الفطرية الطبيعية المشروعة،فإن روحه تحتاج بين الحين والحين إلى إمدادات من وقودها الروحي المعنوي كذكر الله عزوجل وتسبيحه،والأنس بتلاوة القرآن والقيام به وقت السحر،وذكر الآخرة واستحضار الترغيب والترهيب اللازمين للإعداد لها،وكاستحضار خشية الله عزوجل واستشعار جمال ألوهيته وجلال ربوبيته من خلال التدبر في أسمائه الحسنى وصفاته العليا...ولعل زمام ذلك كله في دربة النفس على الإخلاص لجلال وجهه سبحانه وتعالى في صغير أعمالنا وجليلها... قيلَ لأحد الأعلام؛لم الإخلاصُ صعبٌ على النفس..؟ فقال؛لأنه ليس للنفس فيه حظ..!!.
وهذا-وأيم الله-حق.. فلو كان الإخلاص(الذي هو إسلام وإسناد الوجه والعمل والحركة والسكون والمحيا والمماة والأقوال والأفعال لله عزوجل خالصا دون اعتبار سواه)،لو كان الإخلاصُ صفقةً بين حظ النفس وصاحبها،لوجدنا الأنامَ كلهم سلاطينَ الإخلاص ولتسابقَ الكل إلى قطف ثمرته بيسر وسَعَة..!!. بيد أنه لما كان الإخلاص عقداً نافذاً بين المؤمن الحق وربه،فإن حظ النفس والدنيا سينسحب من حياته رأساً،وربما ترتبَ عن ذلك ضياعُ زينة مُغرية كثيرة من زهرة الحياة وبهرجها..!!!.
لذا تجدني كلما قرأتُ سيرة سيدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وسيرة صحبه الكرام،وكلما توقفت عند تلك العبارة الوصفية البليغة التي طالماوَصف علماءُ السيرة هؤلاء الصحب الكرام بها،وهي قولهم:"...لقد كان أصحابُ النبي-عليه الصلاة والسلام-من التجرد والإخلاص لله تعالى حتى خلت نفوسُهم من حظ نفوسهم..!!"..كلما قرأت ُهذه العبارة،إلا وتوقفتُ عندها طويلاً،وسبح فكري وقلبي وكياني في بحر أغوارها،فأهمسُ لنفسي بيقين وقناعة؛..في هذا يكمن السر الذي جعلَ الله عز وجل،يُمكن لهم ويفتح عليهم شرقا وغربا،فإنه لم يمض نصفُ قرن على هؤلاء الذين كانوا إلى عهد قريب أجلافاً في صحراء قاحلة، يرعون الشاة والإبلَ في قفار مكة وشعابها،فإذ بهم هداةً للأمم وقادة وأمراء في الأمصار والأقاليم،يعلمون البشرَ فن بناء الإنسان وحضارته..لما أخلصوا لله ما خيب الله ظنهم به... إنك إن تعجب،فلن تعجب في اليمين المنعقدة التي حلف بها سيدنا أنس بن النضر - رضي الله عنه - حين أقسم على الله أن يُري ربه نفسَه يوم أحُد،يُريها لله دون سواه ، فلما كان الرجل الكبير لم يدر في خَلده تطلعٌ إلى جاه أو منصب أوشهرة صدقه الله فأظهر من البطولات ماتتقازم دونه الأعناق..!!!.
أم لعلك تعجب إن عجبت من الصحابي الجليل "النعمان بن مقرن"-رضي الله عنه-وقدانزوى في زاوية من زوايا المسجد النبوي زمن أمير المؤمنين عمر-رضي الله عنه-،فيدخل عمر ليتفرس في وجوه الحاضرين باحثا عن قيادة محنكة تنقذ الموقفَ لأن جيوشه الفاتحة تشتبك بضراوة في الجبهة الفارسية عند "نيهاوند"،فيلمح النعمانَ،ويُبادره؛أريدك لعمل..فيرد الصحابي الجليل؛إن كان جبايةً ومالاً وخراجاً فلا،وإن كان جهادأ في سبيل الله فنعم..!!!.
والنعمانُ بهذا الرد الجليل،يترجم عمليا قولَ النبي-عليه الصلاة والسلام-:"طوبى لعبد مؤمن آخذٌ بعنان فرسه،يقاتل في سبيل الله،لايهمه أين هو،إن كان في الساقة فهو في الساقة وإن كان في الميمنة فهو في الميمنة وإن كان في الميسرة فهو في الميسرة"(أوكما قال رسول الله).. أجل.. إن الله يحب أولئك العاملين في صمت،الزاهدين في الشهرة والمنصب،المنشغلين باللباب عن القشور،وبالمضمون عن الشكل،الموصولة قلوبهم بالله،لا تحجبهم عنه فتنة ولا تخلبهم متعة أوإغراء.. وليس معنى الإخلاص هنا أن يتحول إلى حالة سلبية من الانكفاء والتقوقع وترك الميدان... لا..لا... إن كثيراًمن الأعمال الجليلة لا تتم إلا في جو العلانية والإبانة كا التعليم والدعوة للخير وغيرها،وليست المشكلة هنا في السر أوالعلَن،وإنما نؤكد على مصاحبة الإخلاص لله تعالى في عمل يقتضي السر أوالعلانية.
وقد كان الصديقُ أبو بكر يقوم الليل فيقرأ سرا،وكان عمر يقوم فيقرأجهراً،فلما سئل الصديق،أجاب بأنه بسره أسمعَ من يُناجي،وعندما سئل الفاروق أجاب بأنه يُوقظ الوسنانَ ويطرد الشيطانَ..!!،إن إخلاص النية عند كليهما،جعلت السر والعلن سواء بسواء... وقد خلد القرآن الكريمفريقين من الهداة الأتقياء،أحدُهما؛ذكراسمه وجهاده صراحة وجهرا،وثانيهما؛طوى أسماءه وأحواله القريبة،مكتفيا بذكر مآثره للعبرة والاتعاظ.. فمن الصنف الأول الأنبياء الخمس والعشرين المذكورة أسمائهم(وقد استفردت سورة الأنعام بذكر ثمانية عشر منهم).. أما من الصنف الثاني،فمؤمن آل فرعون،هذا الرجل المؤمن الذي أحب موسى ،وكان له موقف مشرف في الدفاع عنه أمام فرعون،وقد خلد الله تعالى موقفه في سورة غافر(الآية29)والسؤال،من هو هذا الرجل؟مااسمه؟ماصفاته الجسدية وهندامه؟..لاأحد يدري..!!!. والرجل الذي حكت عنه سورة يسين،دافع عن رسل الله،وجاء من أقصى المدينة يسعى ناصحا قومه،من هو؟مااسمه؟..لاأحد يدري..!!!. والفتية أهل الكهف-وهم من هم بمواقفهم ومعدنهم ومعجزاتهم-من هم؟ماعددهم؟ماأوصافهم؟..لاأحد يدري...!!!. وكأن العبرة من طي أحوالهم المادية،هي جلب الانتباه أن يكونوا رمزاً وعنواناًللتفاني والبذل والعمل بعيداً عن زيطة الأضواء وزمبليطها..!!!!ثم ماذا ينفع هؤلاء أن يشتهروا بأسمائهم بيننا وأن تتحدث عنهم الصحافة العالمية أوالمحلية؟...إنهم عملوا لربهم،وهذا هو الأهم..إذن فليكونوا كالجندي المجهول الذي خلده التاريخ.... ماأحوجنا للإخلاص والمخلصين،وماأفقرأمتنا إلى هذا الصنف المبارك من المتبوئين وأصحاب المناصب الذي تكاد تقاليد الرياء الاجتماعية وحب الظهور والتزعم،أن يجعله-في أيامنا النحسات هذه-من مستحيلات الأيام..!!!.