إنها البداية المعلنة لتقسيم المنطقة العربية د. غسان العزي في يونيو/ حزيران الماضي صدرت عن مركز سابان التابع لمعهد بروكينز “ورقة تحليلية" تحمل الرقم 12 موسومة ب “حالة التقسيم الناعم للعراق" كتبها الأستاذان في المعهد المذكور ادوارد جوزيف (ضابط طيار احتياط في الجيش الأمريكي عمل في البلقان والبوسنة الهرسك وبغداد) وميكائيل اوهانلون (مختص بسياسة الأمن القومي الأمريكي، عمل في زائير وكتب عن العراق والتهديد الاستراتيجي الصيني). يستشهد الكاتبان ب “نموذج الاستقرار في كردستان" ليتوقعا اقتراب “الوقت الذي يضحي فيه التقسيم الناعم للعراق إلى ثلاث مناطق الأمل الوحيد لاستقرار البلد" ويعترفا بأن “هذا التقسيم يحمل صعوبات ومخاطر جمة لكنها اقل بكثير من البدائل وهي حروب اهلية اثنية أو انسحاب أمريكي وتصاعد لأعمال العنف والفوضى المستديمة". ويعتبران هذا التقسيم يفرض نفسه كحل امثل منذ تفجير جامع سامراء في فبراير/ شباط 2006 وأنه “اذا انسحب الجيش الأمريكي وفشلت حكومة المالكي في تحقيق المصالحة الوطنية فإن التقسيم هو البديل الوحيد لحرب اهلية وانفجار حرب إقليمية واسعة حول العراق. وربما يأسف البعض لضياع الصيغة التعددية الاثنية والتنوع العراقي لكن العنف على خلفية انقسام اثني وطائفي جعل العودة إلى الوحدة على قاعدة التعددية هدفا غير ممكن التحقيق". لا ترد كلمة واحدة عن مسؤولية الولاياتالمتحدة عمّا يحصل في العراق بل إن الورقة المذكورة تنتقد الرئيس بوش وتقرير بيكر هاملتون بسبب إصرارهما على وحدة العراق، وتحث على التوقف عن إضاعة الوقت والانكباب على مفاوضات حثيثة لإنشاء مؤسسات جديدة اقليمية في العراق وتنظيم عملية انتقال سكاني واسعة بشكل ارادي هادىء ومنظم بالتوافق مع القوى السياسية العراقية وتحت رعاية الأممالمتحدة. ينبغي، في رأي الورقة، أن تحل الوساطة الدولية محل جهود حكومة المالكي الفاشلة، وأن يقدم الشيعة والأكراد تنازلات للسنة في موضوع الثروة النفطية في مقابل حصولهم على دول مستقرة قادرة على العيش والديمومة. وللسنة مصلحة في التخلص من هيمنة الشيعة، وللأكراد مصلحة في اعتراف الآخرين بما بنوه من أمر واقع في كردستان المستقرة. وهكذا يبدو حرص معهد بروكينغز، الذي يديره مارتن انديك السفير الأمريكي الأسبق في “إسرائيل"، على مصالح السنة والشيعة والأكراد في العراق، لكنه بالطبع لا ينسى مصلحة الولاياتالمتحدة الاستراتيجية جراء هذا التقسيم “الناعم" للعراق، وربما المنطقة من بعده، إذ إنه يحقق السلام مع دول الجوار العراقي، ويقضي على الإرهاب مع الوقت، ويوفر نهاية حميدة للحرب القائمة وما تخلفه من خسائر بشرية ومادية لكل الأطراف. والتقسيم “الناعم" للعراق بديلاً عن التقسيم “الخشن" الجاري على قدم وساق بالدم والنار يتفق مع خطة السيناتور جوزيف بيدن وليسلي غلب الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية، بحسب الورقة آنفة الذكر. ففي رأيها “كثير من العراقيين لا يودون العيش كأقليات مهددة في وجودها ويفضلون الانتقال للعيش في مناطق يشعرون فيها بالأمن مع إخوتهم في الدين أو المذهب.. من الواجب مساعدتهم على ذلك". ومن واجبنا ربما شكر معهد بروكينغز على حسه الإنساني هذا، اليس كذلك؟ والسؤال الذي تطرحه الورقة: “هل هذا التقسيم مقبول من الناحيتين الأخلاقية والاستراتيجية وهل هو ممكن التطبيق عمليا؟" أرأيتم حرص هؤلاء على الناحية الأخلاقية؟ بالطبع يمكننا توقع الجواب. تعترف الورقة بأن السنة والشيعة العرب يرفضون تاريخيا وتقليديا مثل هذا التقسيم للعراق خشنا كان أم ناعما، لكن ينزح بين 50 و100 الف عراقي من بيوتهم كما يفقد الآلاف حياتهم شهريا، ويبدو العراق اليوم شبيها بالبوسنة الهرسك في بداية التسعينات. وقد تم التوقيع على اتفاق دايتون عام 1995 لكن بعد أن خسر البوسنيون 200 ألف قتيل. وبالمقارنة فقد يسقط مليون عراقي قبل أن يقتنع الجميع بالحل على الطريقة البوسنية. اذاً، من الأفضل أن يسعى السياسيون الحكماء إلى التقسيم الناعم بدل أن يتم هذا التقسيم عمليا على يد الإرهاب والعنف الطائفي. وهكذا فإن الحرص على حياة العراقيين هو الذي حدا بجوزيف صاحب التجربة الطويلة في البلقان والبوسنة وزميله اوهانلون إلى التذكير بالتجربة البوسنية وتفادي مآسيها. ويقدم الأستاذان المذكوران نصائح عملية لتنفيذ التقسيم الناعم للعراق عبر اجراءات عديدة ينبغي القيام بها، مثل تقاسم عائدات النفط بين المناطق الثلاث، وترسيم حدود آمنة في ما بينها، وتأمين وجود عسكري أجنبي للإشراف على عمليات إجلاء وانتقال السكان والتدخل لحماية الأقليات عند اللزوم، وإنشاء برامج لخلق وظائف وأعمال للنازحين وغير ذلك. ولا ينبغي فرض التقسيم من الخارج، فدستور العراق الذي صوت عليه الشعب العراقي في اكتوبر/تشرين الأول 2005 يسمح بخلق “مناطق" ثلاث، لكن على الخطة الجديدة أن تشرف على انتقال حوالي خمسة ملايين عراقي بشكل آمن ومتفق عليه بين القوى السياسية. هذا باختصار شديد ما يطالعنا به آخر تحليل لمعهد بروكينغز المعروف بتأثيره في الإدارة الأمريكية وقربه من اللوبي الصهيوني. فهل كان من قبيل المصادفة أن يصوت الكونجرس وبأغلبية الثلثين على فكرة تقسيم العراق بعد شهرين من نشرهذا التحليل؟ والأخطر من ذلك أن شيوخاً بارزين، من الحزبين، صوتوا لمشروع بيدن هذا امثال هيلاري كلينتون واوباك باهاماوجون سنونو وريشارد لوغار وغيرهم. ولا يقلل من خطورة الأمر كون المشروع غير ملزم للإدارة الأمريكية في أواخر عهدها، لأن الأكيد هو أن الإدارة المقبلة سوف تعمل على تطبيقه بتشجيع من العجز العربي المزمن ومن الضغوط الصهيونية الحثيثة. ربما علينا أن نشكر اصحاب مشروع التقسيم “الناعم" للعراق ليس على “إنسانيتهم" المفرطة ورأفتهم بأرواح العراقيين وحرصهم على مصلحة شعوب منطقتنا، ولكن على إزالتهم للقناع أخيرا علهم بذلك يتسببون، عن غير قصد، بقرع اجراس إنذار توقظ النائمين من سباتهم، لأن نار التقسيم العراقي لن توفر بقعة خضراء أو يابسة في كل هذا الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج، مصالح الكل أضحت في خطر فليرتفعوا فوق الخلافات الرخيصة قبل أن يفوت الأوان. تصويت الكونجرس هذا يؤكد أن المشروع “الإسرائيلي" هو الذي ينجح في العراق والمنطقة وأن المشروع الأمريكي، في شقه المعلن على الأقل، أضحى في خبر كان. إنه دليل جديد على قدرة اللوبي الصهيوني في مركز القرار الأمريكي. عن صحيفة الخليج الاماراتية 18/10/2007