الكلمة.. قد تهدى، وقد تضل.. وقد تجمع، وقد تفرق.. وقد تثبت، وقد تزعزع.. وقد تبنى، وقد تهدم.. وقد تسعد، وقد تشقى.. ولا يدرك ذلك إلا عاقلاً، قاد عقله لسانه، وألجمت حكمته شهوة كلامه، فتأمل الكلمة قبل أن ينطق بها لسانه، أو قبل أن يخطها قلمه، أو قبل أن تومئ بها جوارحه، خشية أن تنطلق كلمة من قوس الغضب، أو من فوهة الغرض، فتقيم للشر سرادقاً يُذبح عند مدخله أدب الحديث، وحسن المخاطبة..!!.
من أجل ذلك سُجن اللسان في جوف تجويف مظلم محكم، وضُرب على سجنه بابان عظيمان.. أسنان وشفتان، كي لا تنفك لفظة من عقالها، فتعيث في الأرض فساداً، بأن تهتك عرضاً، أو تكشف ستراً، أو تذيع سراً، أو توغر صدراً، أو توقع عداوة.. وكم من رعود أبْرقت، وكم من أعاصير دمْرت، وكم من ريح أهلكت.. والسبب كلمة عابرة خرجت من ثغر من لا يدرك.. في أوان غير مناسب.. وفى مكان غير ملائم.. وعلى هيئة غير صحيحة، فأقامت للفتنة مدن، وأسست للشر عواصم.
لقد بُنيت الدنيا على النقائض.. موت وحياة.. حركة وسكون.. ليل و نهار.. وهكذا، ومن ثم فلا تستقيم الدنيا على نقيض واحد، بل لا تقوم لها من الأساس قائمة، فكل من عاش الحياة، حتماً سيذوق الموت، وكل مارس الحركة، لابد أن يخلد إلى السكون.. فإذا كان الكلام مثل الحركة، فلن يستطيع اللسان أن يتحرك بإتقان طوال الوقت ليقول قولاً سديداً، فإما أن يزهد.. أو يتعب.. أو يترنح، وحينئذٍ لن تنضبط حركة اللسان على مدار الكلمة الهادفة مهما حاول، والمطلوب وقتئذ سكوت مثل السكون.. من أجل استرجاع الطاقة، واستدعاء الحكمة، وشحذ همة العقل كي يراقب فعل اللسان.
ومما يحزن القلب حقاً، أن دوامة الثرثرة قد سحبت ألسنة كثير من الناس نحو مركزها، فراحوا يتكلمون.. لماذا؟.. لا يعرفون ..!!، حتى لكأنهم قد عزفوا عن السمع الذي خُلقت له أذنان ليكون السمع أكثر من الكلام، لكنها شهوة تبحث عن شهرة، أو نزوة تفتش عن متعة، والمحصلة حالة ضبابية تتوه فيها الفكرة، وتضيع فيها الحكمة، فلا يسمع أحد إلى أحد، لأن الكل يريد أن يتكلم بلا حد وبلا سقف، وهنا تسقط قيم التحضر والاحترام والأدب، وتعلو مفردات الجهل والسفاهة. لذا فلست من المؤيدين للكلام المستمر، ولو كان جله صحيح..!! فماذا يكون الحال لو خلا الكلام من رائحة الحقيقة والأدب؟!.
لما تطرق موقعي المفضل " محيط " إلى قضية " تعليقات قراء محيط .. بين الحرية والمسئولية "، وعرض لبعض مفردات من تعليق أحد القراء، أيقنت بأن الحرية واجب قبل أن تكون حق، فليس من المقبول استخدام حق التعبير في رشق الناس بالتهم، وكيل السُباب والشتائم، استناداً إلى مصطلح الحرية وتأويلاً أعوج لمفهومه، لأن الفرق بين الحرية والفوضى شعرة دقيقة تتمثل في أدب، وصدق، وضمير، ومسئولية، والتعبير عن الرأي أحد الجوانب المضيئة للحرية بشرط أن يكون الرأي تعبيراً عن حق، ونابعاً عن علم، ومُصاغاً بلغة المتحضرين، وإلا فحجبه ألزم، ومنعه أولى، ومعاقبة مبديه أوقع.
وإن كان لي من رأى في هذه المسألة، فإني - وعن قناعة تامة - مع الفرز، والغربلة، ثم الحجب لكل كلمة غير لائقة مبنى أو معنى، فليس كل مكتوب يستحق العرض، ولا كل مُتفوهٍ به يستحق الإعلام، فإذا كانت الغيبة، والنميمة، والكذب، والإشاعة، والإساءة، والتشكيك.. الخ، من قبيل حرية الرأي.. فلنقل على الدنيا السلام..!!، ثم لنرحم عين القارئ، وأذن السامع، من كل قول قبيح، ومن كل كلمة نابية، لأن معارض الشتائم مثل حقول الألغام، ربما ينفجر منها واحداً، فيصيب عقلاً، أو يضر فكراً، والمجتمع هو من يدفع الثمن في النهاية.
لقد تزايدت وتيرة لغة القدح والسب في الآونة الأخيرة، والأنكى أن مفرداتها طفت على سطح الإعلام المسموع والمقروء والمشاهد بسرعة الصاروخ، فأضحت آذاننا و أبصارنا تلتقط ألفاظاً كنا نعتبرها فيما مضى ألفاظاً جارحة للحياء أو خارجة عن الذوق العام، الأمر الذي يعطى إحساساً بأن رقعة ومساحة هذه الألفاظ الغريبة على بيئتنا سوف تتسع، ما لم تكن هنالك وقفة لضبط إيقاع التعبير والرأي على محور الحرية السليم، بحيث توضع أطر وحدود لا يجب تخطيها مهما كانت المبررات والأسباب.
إن الإسلام قد أمر بالقول اللين، والقول الحسن، والقول السديد.. قال تعالى { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }، والأمر لنبي الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام، حيث أُمرا بالقول اللين.. لمن؟ لفرعون.. لماذا؟ رجاء أن يهتدي..!، قال تعالى { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ }، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا }، ففي هذه الآيات وغيرها أوامر ربانية نورانية تحمل دعوة صريحة لبذل العناية في إخراج الكلمة، فلا تخرج إلا جميلة.. نقية.. هادئة.. هادفة، ليس لفئة دون فئة، ولكن لكل الناس على اختلاف مناصبهم ودرجاتهم.
وأخيراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقى لها بالاً يهوى بها في نار جهنم سبعين خريفا ".. فهلا تريثنا.. ودققنا.. من قبل أن نندم.. حين لا ينفع الندم..؟!.