صوت حكيم .. في غابة القتل والدم والحرائق العراقية! محمد خرّوب يبرز الرئيس جلال الطالباني في المشهد العراقي الدموي وبكل العنف الطائفي والمذهبي والارهابي الذي يعصف بالعراق ويهدده ''كدولة''، كأحد أبرز الأصوات الحكيمة والعاقلة، المستندة الى قراءة عميقة للمشهدين الاقليمي والدولي، تلحظ في الآن ذاته تعقيدات الأزمة العراقية وتداعيات الأدوار الاقليمية وما يفرضه الوجود الاميركي (في العراق والمنطقة) من استحقاقات وتداعيات وأكلاف.. بمقدور المرء، سياسيا كان أم صحافيا، حزبيا أم مواطنا عاديا، ان يختلف مع طروحات طالباني السياسية، وان يجد مساحات ربما تكون واسعة، لكي يقف بعيدا عن المربع الذي يقف عليه زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، الا انه في كل الحالات لا يملك الا ان يحترم هذا السياسي الكردي المحنك، الذي ''تمرد'' في وقت مبكر على ''البطركية'' الكردية ورفض الانصياع لقراءات ومواقف رأى أنها تجر الويلات على الاكراد وقضيتهم التحررية ورفضهم الحازم للتذويب وعدم الاعتراف بحقوقهم القومية وخصوصيتهم الثقافية.. مناسبة الحديث عن جلال طالباني، رئيس جمهورية العراق والزعيم الكردي المتحالف مع الحزب الكردي المنافس ''الديمقراطي الكردستاني'' بزعامة مسعود برزاني، حيث الاخير يشغل رئيس اقليم كردستان العراق، هو الحديث الصحافي الموسع والحافل بالمفاجآت والقراءات غير المألوفة والاجابات التي تصل في صراحتها حداً غير مسبوق، الذي اجرته صحيفة ''الخليج'' الاماراتية معه يوم أول من أمس الخميس.. جلال طالباني هنا، يكشف عن كثير من الحقائق التي كانت ربما خافية على البعض او هي في مجملها تحمل ''البساطة'' الا انها تقرأ في الصورة العراقية الراهنة، بواقعية وبعد نظر وحكمة تتجاوز الانفعال وخطاب التهديد والوعيد الذي تنطوي عليه تصريحات المسؤولين العراقيين من العرب او الكرد ويحضرني هنا مثالان .. نوري المالكي رئيس الوزراء، الذي يبدو ان نجمه السياسي قد افل وان مسألة اطاحته، ازاحته او اقالته (لا فرق) هي مجرد وقت، والآخر مسعود برازاني رئيس اقليم كردستان، كلاهما يذهب بعيدا في التلويح بالقوة ويعيد انتاج خطاب النظام السابق، الذي لم يكن على تلك الكفاية والذكاء في التعامل مع الملفات الاقليمية وتداعيات لعبة الادوار والصراع على النفوذ الذي يميز المشهد الاقليمي، والذي كان العراق على الدوام بؤرته وساحته منذ الحرب العراقية الايرانية مطالع ثمانينات القرن الماضي وخصوصا بعد الغزو العراقي للكويت في 2 آب 1990 وصولا الى الغزو الامريكي البريطاني للعراق وسقوط بغداد في التاسع من نيسان 2003 حتى الآن.. نوري المالكي - على سبيل المثال - هدد ''بنقل'' الارهاب الى عواصم الدول المجاورة التي تدعم عمليات العنف والارهاب في العراق .. وتهديدات مسعود برازاني لتركيا لا تنسى في هذا الشأن عندما قال انه سيدعم الحركات الكردية التركية المعارضة اذا ما نفذت انقرة تهديداتها باجتياح شمال العراق او تدخلت في قضية كركوك.. كيف يقرأ طالباني هذه الخلافات؟ الرئيس العراقي لا يتخلى عن موضوعيته هنا وخصوصا دقته وتشخيصه لما يحدث، فهو يقول مثلا: ''ان في تركيا حركة ديمقراطية واسعة تعطي المجال للكرد، كي يرسلوا ممثليهم الى البرلمان ولهم حزب وصحافة، والدستور الجديد سيعترف لهم بحقوق اكثر .. ان القتال ضد حكومة اردوغان، يضيف طالباني، .. هو قتال ضد الشعب الكردي لأن مصلحة الشعب الكردي الآن في الديمقراطية. ثم يكشف الرئيس العراقي عن ''سر'' ربما لا يعرفه كثيرون، وهو ان القصف الايراني للمناطق الكردية في شمال العراق جاء ردا على قصف قامت به منظمة اسمها ''باجاك'' منشقة عن حزب العمال الكردستاني التركي، وهنا يبرز التعارض في القراءة والموقف بين طالباني ووزير الخارجية الكردي هوشيار زيباري وايضا مواقف نوري المالكي ذاته، رغم غموضها والتباسها.. ماذا عن التركيبة الطائفية والعرقية؟ ليس لدى طالباني أي شكوك بأن الدستور العراقي الدائم غير منصف للسنة، وان فيه العديد من الثغرات والثقوب بل هو يقول انه تم تعديل حوالي ''50'' مادة من الدستور بناء على طلب العرب السنة لكنه يعترف في الان عينه بأن عدم اقرارها رسمياً انما يرجع في حاجتها الى استفتاء شعبي على التعديل لانه (التعديل) ليس بهذه البساطة (...) فليس كافياً في نظره اقرار التعديل في البرلمان فقط بل يجب إحالة الموضوع الى الاستفتاء في جميع المناطق ولا يتردد بأن قضية تعديل الدستور مسألة صعبة خاصة في العراق''.. لا يقول مثل هذا الكلام الواضح والصريح غير شخصية ديمقراطية منفتحة مثل جلال طالباني صاحب التجربة الطويلة والعميقة، التي تخللتها المرارات والانكسارات والخذلان كما حفلت بالنجاحات والانجازات والانتصارات وخصوصاً في كسر احتكار التمثيل الكردستاني والاسهام المباشر في دمقرطة المناطق الكردستانية وفي اشاعة اجواء التسامح والقبول بالعراقي ''العربي'' بعيداً عن التزمت والعنصرية وخصوصاً العقلية الثأرية والتحالفات المريبة.. الرئيس العراقي لا يخفي اتفاقه مع قراءة الرئيس الاميركي للمشهد العراقي وخصوصاً في اعتبار بقاء القوات الاميركية في العراق الى آخر يوم من رئاسته بمثابة مساندة للشعب العراقي اضافة الى كونه (بوش) غير مبال بنتائج استطلاعات الرأي العام في اميركا حول سياساته في العراق وفق ما ابلغه الرئيس الاميركي لما وصفها طالباني بقيادات البيان ''الخماسي''(يقصد حزبه، الاتحاد الوطني ، والديمقراطي الكردستاني برزاني، وحزب الدعوة بقيادة المالكي والمجلس الاعلى عبدالعزيز الحكيم والحزب الاسلامي بقيادة طارق الهاشمي) عند زيارته الاخيرة لمنطقة الانبار.. الحال ان الرئيس العراقي، يمثل بحق الاعتدال والواقعية ولا تبدو ''كرديته'' عائقاً امام المحاولات الرامية الى قيام عراق ديمقراطي بلا اقنعة او هويات طائفية او مذهبية او أثنية ورغم مساحات الاختلاف التي قد تكون واسعة وربما عميقة مع قراءات جلال طالباني، الا ان خطابه وطروحاته وديمقراطيته وسعة أفقه وعمق تجربته، تشكلان ضمانة وهامشا عريضا للحوار والتوافق، اذا ما استدعينا في الصورة شخصيات سنية وكردية وخصوصا شيعية متطرفة رافضة لثقافة الحوار والاعتراف بالآخر (العراقي) شريكا لها في الحكم والقرار.. * استدراك : امتلك جلال طالباني الشجاعة التي تبدو خارجة او صادمة لبعض مواطنيه الكرد، عندما قال فيما يشبه التحدي: لا توجد أي امكانية لقيام دولة كردية مستقلة في العراق جغرافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا.. آن الأوان - يواصل هذا الرجل الحكيم - لفهم جديد للأمور، على اساس العيش معا في سلام واخوة ومحبة تضمن مصالح الجميع بالتساوي.. عن صحيفة الرأي الاردنية 15/9/2007