الخيارات الإسلامية والحداثية في التجربة التركية هناء عبيد اعتملت السياسة التركية في الشهور القليلة الماضية بتصاعد عدد من الاستقطابات, منها المرجعية العلمانية في مواجهة المرجعية الدينية الإسلامية, والخطاب القومي التركي في مواجهة خطاب التعاون الخارجي, والحكم المدني في مواجهة تدخلات العسكر, وأخيرا شرعية التظاهر أو الشارع في مواجهة شرعية صناديق الاقتراع. وقد تواكبت خطوط التماس بين هذه الاستقطابات المهمة لتفرز كيمياء الأزمة السياسية التي شهدتها تركيا علي مدي الشهور الماضية, انتهاء بفوز وزير الخارجية السابق عبدالله جول والرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية بمنصب رئيس الجمهورية الحادي عشر لتركيا. وتعتبر الأزمة الأخيرة تنويعا علي الأسئلة السياسية الأساسية في تاريخ تركيا المعاصر, وامتدادا لثنائيات أو تناقضات تعايشت في التجربة التركية الحديثة وأهمها ثنائيات العلمانية/الاسلام, والحكم العسكري/المدني, والتقليد/الحداثة. ففي إطار نظام يقوم دستوريا علي الحكم المدني ولكنه يشهد دورات من تدخل العسكر المباشر وغير المباشر في الحكم, ومجتمع تدين أغلبيته المطلقة بالإسلام, بينما يقر دستوره الإرث العلماني للبلاد, بمعني سيطرة الدولة علي الدين أو الفصل بين الدين والدولة, ومنع استخدام الرموز الدينية في المجال العام, شهدت الحالة التركية مراحل متعاقبة من التجاذب خاصة مع بدايات حصول أحزاب سياسية ذات مرجعيات إسلامية علي نسب تمثيل معقولة في البرلمان التركي, وفي هذا السياق, فقد مثل اختيار رئيس الجمهورية وعملية تداول السلطة المدنية بوجه عام علي مدي العقود الماضية ظرفا صعبا ومناسبة لاختبار قوة الأطراف المختلفة وتفاعلاتها, وهو ما ينتهي عادة بالانتصار للمرشح المدعوم من قبل المؤسسة العسكرية والتي تعرف نفسها باعتبارها حامية القيم العلمانية والقومية في البلاد. وتقليديا اعتبرت مؤسسة الرئاسة هي إحدي المؤسسات الرئيسية التي يمارس الجيش تأثيره من خلالها, والسجل التاريخي للجيش في تركيا يشير الي تمتعه بقوة فيتو علي السياسة التركية, حيث أطاح بأربع حكومات منذ1960 آخرها بقيادة نجم الدين أربكان عام1997, بل وكان وراء سجن رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان نفسه لبضعة أشهر عام99/98 بسبب إلقائه قصيدة قدر أنها تحرض علي الكراهية الدينية. أما الزخم الذي حظيت به الانتخابات التركية الرئاسية الأخيرة, فقد نتج عن الشعور بتزايد قوة حزب العدالة والتنمية بما ينذر بامتداد تأثيره الي مؤسسات أخري انتمت تقليديا الي حيز نفوذ المؤسسة العسكرية والمقصود منصب الرئاسة, أو بعبارة أخري بإمكان تغيير قواعد اللعبة التي جرت عليها السياسة التركية علي مدي العقود الماضية. فبانتهاء مدة حكم الرئيس التركي السابق أحمد نجدت سيزار, الذي انتمي فكريا الي العلمانية القومية التركية, بات علي الحزب الحاكم إعلان أسماء مرشحه للمنصب الرئاسي, فطرح لأول مرة ترشيح وزير الخارجية السابق عبدالله جول وهو ما أنذر بتفجير الأزمة بين ما يصطلح عليها القوي الإسلامية والقوي العلمانية في تركيا. وتداعت الأزمة بتغيب أحزاب المعارضة عن جلسة البرلمان للتصويت علي ترشيح جول وتقديمها طعنا لدي المحكمة الدستورية التركية التي قررت في الأول من شهر مايو الماضي إلغاء جولة الاقتراع البرلماني الأولي, التي أجريت قبل أيام من اختيار عبدالله جول المرشح الوحيد للرئاسة, وذلك لعدم اكتمال النصاب(367 صوتا من أصل550), وتداعت الأحداث مؤدية الي سحب جول لترشيحه في السادس من شهر مايو الماضي, ودعوة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حزب العدالة والتنمية الي تقديم موعد الانتخابات البرلمانية من نوفمبر الي نهاية شهر يوليو وذلك لحسم الاختلاف عن طريق صناديق الاقتراع. وتعتبر الانتخابات البرلمانية ذات دلالة حاسمة بالنسبة لاختيار رئيس الجمهورية التركية, حيث يقضي الدستور التركي الحالي باختيار ثلثي أعضاء البرلمان للرئيس, ومن ثم فإن القوي السياسية التي تتمتع بثقل كبير في البرلمان تتعزز تلقائيا فرص اختيارها لمرشحها للمنصب التنفيذي, بالإضافة الي ذلك, فقد اقترح رئيس الوزراء التركي إجراء تعديل دستوري يقضي باختيار رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع العام المباشر, وذلك للخروج من دائرة التجاذب التي يشهدها تداول السلطة في تركيا والدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في هذا السياق. وقد دارت معركة انتخابية نظيفة بلغت نسب المشاركة فيها84%, وكان طرفاها الأساسيان هما حزب العدالة والتنمية من جانب وقوي المعارضة القومية والعلمانية وعلي رأسها حزب الشعب الجمهوري والمدعومة من قبل المؤسسة العسكرية من جانب آخر, بالاضافة الي عدد من القوي الأقل تأثيرا علي الجانبين من أحزاب دينية صغيرة وأحزاب اليمين المتطرف, وأسفرت الانتخابات عن فوز كاسح لحزب العدالة والتنمية عضد من رهاناته علي صناديق الاقتراع بالرغم من كثافة المظاهرات المضادة للحزب وسياساته الموسومة بالدينية والتي ضمت في بعض الأحيان مئات الآلاف من المتظاهرين. فقد أظهرت النتائج حصول الحزب الحاكم بزعامة أردوغان علي نحو47% من الأصوات, بما يزيد علي12% عن انتخابات عام2002, وهي نسبة تعكس التقدير الشعبي الايجابي لسجل الحزب في الأعوام الخمسة التي قضاها في السلطة, فبالرغم من حالة الشحن المعنوي التي واكبت الانتخابات, فقد دارت الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية علي قضايا آنية مثل الاقتصاد والمشكلة الكردية والمشروع الأوروبي, بما يعني أن التصويت لم يكن فقط خيارا ايديولوجيا وانما عكس خيارا سياسيا حياتيا بالنسبة للمواطن التركي. علي الجانب الآخر, لم يتجاوز من أحزاب المعارضة حاجز العشرة في المائة الضرورية كحد أدني لدخول البرلمان سوي حزبين علمانيين, هما حزب الشعب الجمهوري القومي وحصل علي20%, وحزب الحركة القومية المنتمي لأقصي اليمين الذي حصل علي10%. وتشير تفصيلات نتائج الانتخابات البرلمانية الي حصول حزب العدالة والتنمية علي تمثيل جغرافي وطائفي وطبقي هو الأفضل بين المتنافسين, فمن ناحية أولي تؤكد الدراسات توزع نسب نجاح الحزب بين كل المناطق الجغرافية, حيث حقق فوزه في69 محافظة من محافظات تركيا ال81, بينما تضاعفت نسب التصويت للحزب في المناطق الكردية من26% عام2002, الي53% في الانتخابات الأخيرة, الأمر الذي له بالغ الدلالة في قدرة الحكومة علي التعامل مع الملف الكردي, ولم تستطع أي من أحزاب المعارضة الحصول علي تمثيل جغرافي يقترب من حزب العدالة والتنمية, حيث فاز حزب الشعب الجمهوري في خمس محافظات غربي البلاد, وحزب الحركة القومية في محافظتين والمرشحون المستقلون ومعظمهم من الأكراد في خمس محافظات. من ناحية أخري, تشير الاستطلاعات الي تنوع الأساس الطبقي المؤيد لحزب العدالة والتنمية, الذي تتهمه المعارضة إنه حزب رجال الأعمال أو الطبقة الوسطي والوسطي العليا في تركيا, حيث حصل الحزب علي نحو نصف أصوات الطبقات الدنيا ومحدودة الدخل في تركيا, بينما حصل علي35% من أصوات الطبقة الوسطي العليا ونحو23% من أصوات أصحاب الدخول المرتفعة وفقا لدراسة الباحث التركي كرم أوكتيم. وقد حسم هذا التصويت الشعبي بالثقة الأزمة التي دارت حول منصب رئيس الجمهورية, حيث أعيد ترشيح عبدالله جول للمنصب, وفاز به بعد ثلاث جولات من التصويت البرلماني. وقد رجحت عدة عوامل كفة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ومكنته من فرض مرشحه الرئاسي, بينما تراجعت المؤسسة العسكرية عن فكرة التدخل علي ضوء تمتع الحزب بذلك الحجم من التأييد الشعبي, ومن العوامل المهمة في هذا السياق, العامل المرجعي الأيديولوجي الذي يقدم فيه الحزب نفسه باعتباره بديلا إسلاميا معتدلا يسعي الي تحقيق حلم الحداثة التركية في ظل مرجعية إسلامية, ومن ثم فإن الحزب يقدم تعريفا للهوية التركية يتماشي مع المزاج العام دون أن يتناقض مع تعريف العلمانية التركية وفقا لمؤسس الدولة الحديثة مصطفي كمال أتاتورك, وفي هذا الإطار أبدت رموز الحزب احتراما مستمرا للقواعد العلمانية التركية وتجنبت الاصطدام بأي من التقاليد العلمانية المتعارف عليها أو التي يؤيدها الدستور فيما يخص منع الرموز الدينية عن المجال العام, ومنع الحجاب وغيرها من القضايا الخلافية, بحيث ظلت المصلحة الوطنية والسياسة التوافقية مميزة لحكومة الحزب وقياداته, يلي العامل الأيديولوجي الإنجاز الاقتصادي الذي حققته حكومة الحزب علي مدي الأعوام الخمسة الماضية, حيث حافظت علي نسبة نمو اقتصادي بلغت7%, وتضاعف نصيب الفرد من الدخل القومي. كما تزايدت معدلات الاستثمار الاستثمار الأجنبي المباشر, وعادت الثقة إلي البورصة التركية بعد الأزمة التي شهدتها عام2001. من ناحية أخري, فقد رجح إدارة الحكومة لعلاقاتها الخارجية من كفتها السياسية, حيث حافظت علي شبكة العلاقات الخارجية التركية الإقليمية والدولية, وعملت علي دفع جهود الانضمام الي الاتحاد الأوروبي من خلال سلسلة من الاصلاحات الاقتصادية والسياسية الداخلية والتي اعترف بها تقرير المفوضية الأوروبية في نهاية عام2004, في نفس الوقت فقد تعمقت العلاقات مع الولاياتالمتحدة, بحيث أصبح الرئيس بوش الابن يشير الي تركيا باعتبارها الدولة النموذج في منطقة الشرق الأوسط, بالإشارة أساسا الي مفهوم الإسلام المعتدل أو غير المعادي للغرب فيها. وهناك عدد من العوامل الأخري التي عززت من شعبية حزب العدالة والتنمية باعتباره البديل الحداثي أو الاصلاحي, ومنها موقف الحزب في الأزمة الأخيرة التي صاحبت ترشيح جول بحيث بدا القوة الأساسية التي تدعم المكتسبات الديمقراطية في مواجهة المؤسسة العسكرية ومؤيديها في السلك القضائي والتي بدت علي استعداد للتضحية بالعملية الديمقراطية, كذلك عزز من الرصيد الاصلاحي للحزب النهج المتعقل في مواجهة مظاهرات تأييد العلمانية والاحتكام الي صناديق الاقتراع بدلا من مبادلة المظاهرات بمظاهرات مضادة, وذلك بالرغم من المخاطرة التي انطوي عليها الاحتكام للناخبين في ضوء كثافة المظاهرات المضادة للتيار الإسلامي, وفي نفس السياق, فقد بدت الكثير من مخاوف التيارات العلمانية حول سياسات الحزب التقليدية أو المحافظة في غير محلها, خاصة فيما يخص المرأة, حيث تشغل المرأة التركية نحو10% من مقاعد البرلمان التركي أو49 مقعدا, كما تزايد الدور السياسي للمرأة بشكل ملحوظ في السياسة التركية. حاصل هذه العوامل, أن بدا الخيار الإسلامي في المشهد التركي الراهن ممثلا في حزب العدالة والتنمية مرادفا للخيار الحداثي, بحيث أصبح الطرح الذي يقدمه الحزب ورموزه أكثر صدقا مع فكرة الدولة الحديثة, خاصة فيما يتعلق بالاصلاح السياسي والاقتصادي وبناء شبكة تحالفات دولية متينة, الأمر الذي يؤكده تراجع شعبية الأحزاب الإسلامية التقليدية أو المحافظة مثل حزب السعادة, والتي تنادي بأفكار من قبيل القومية الإسلامية والأمم المتحدة الإسلامية, حيث حصل حزب السعادة علي نسبة لاتزيد علي2,34% من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية برغم الهجوم الحاد الذي شنه قادته علي حزب العدالة واتهامه ببيع البلاد لأوروبا والولاياتالمتحدة والتبعية لإسرائيل, ومن ثم فإن نجاح جول يعكس في جوهره تلاقي المرجعية الإسلامية في حزب العدالة والتنمية مع مقتضيات الدولة الحديثة في التعريف التركي, في وصفة انقلبت علي الثنائيات الجامدة وحازت تأييدا شعبيا مكن الحزب أخيرا من وضع مرشحه علي رأس السلطة التنفيذية. عن جريدة الاهرام المصرية 8/9/2007