" حروب القوقاز " تنبعث من رقادها سعد محيو “فايننشيال تايمز" تعتبر مخاطر الحرب الشاملة بين روسيا وجورجيا بسبب مقاطعة أوسيتيا الجنوبية “عبثاً دموياً لا طائل من ورائه". وهي على حق لو كان الأمر يتعلق بهذه المقاطعة وحدها. فأوسيتيا الجنوبية ليست أكثر من مجرد سلسلة متقطعة من القرى الجبلية التي لا يتجاوز عدد سكانها السبعين ألف نسمة، والتي تتعايش فيها هذه الحفنة من الأوسيتيين والجورجيين (وإن على كثير من المضض وقليل من الود) منذ مئات السنين. لكن أوسيتيا الجنوبية ليست هي المشكلة. إنها النتيجة، أو بالأحرى جزء بسيط من نتائج المجابهة الكبرى التي يسمع هديرها الآن في كل منطقة القوقاز الكبرى بين الولاياتالمتحدةوروسيا. وهي مجابهة ستحدد مصير دور روسيا برمته في الساحتين الإقليمية القوقازية والأوروبية، وطبيعة الدور الأمريكي في ممتلكات الاتحاد السوفييتي السابق. إذ من يربح القوقاز، يمسك برقبة قارة “أوراسيا" (أوروبا-آسيا) من خناقها. لماذا القوقاز؟ لأن هذه المنطقة جيو- استراتيجية من الطراز الأول، وواحدة من أكثر المناطق خطورة لأنها في الوقت ذاته الأكثر تنوّعاً لغوياً وإثنياً في العالم. فهي جغرافياً تشكّل حاجزاً جبلياً عملاقاً يفصل بين قارتي أوروبا وآسيا. وهي تاريخياً كانت أرض الصراع الرئيسي بين الامبراطوريات الثلاث العثمانية والفارسية والروسية، والذي أسفر عما يسمى “حروب القوقاز" المديدة في القرن التاسع عشر. حصيلة هذه الحروب كانت سيطرة اسطنبول على جنوب القوقاز (جورجيا، أرمينيا، أذربيجان)، وهيمنة روسيا على شمال القوقاز (جنوب غرب روسيا، شمال جورجيا، شمال أذربيجان)، إلى أن سقطت المنطقة برمتها لاحقاً في حضن الدب الروسي. الآن، “حروب القوقاز" باتت لعبة أمم أمريكية- روسية. فواشنطن تريد السيطرة على هذه المنطقة لإحكام الطوق على روسيا لجعلها تختنق بأنفاسها داخل حدودها، من جهة، ولتسهيل سيطرتها على نفط آسيا الوسطى-قزوين، من ناحية ثانية. وهي تنشط منذ الربيع الماضي لتحقيق ذلك، من خلال محاولة تمديد مخالب حلف شمال الأطلسي إلى جورجيا ودول القوقاز الأخرى. وموسكو، التي تعرف ما تريد واشنطن لم تأل جهداً، خاصة مع عهد فلاديمير بوتين، لعرقلة هذه المساعي. فهي رفضت بقوة انضمام جورجيا إلى حلف الأطلسي، وأتبعت ذلك ببدء استفزاز هذه الأخيرة لاستدراجها إلى مجابهة عسكرية من شأنها إضعاف شهوة الحلف في ضمها إلى صفوفه بسبب الأكلاف الكبيرة لذلك، ولأنه ليس وارداً أن يتدخل الحلف عسكرياً لدعمها في أي حرب شاملة مع روسيا. والحصيلة: الانفجار الحالي لأوسيتيا الجنوبية. كيف يمكن أن تتطور الأمور الآن؟ الحرب المفتوحة واردة، وكذا الحلول الدبلوماسية. والكثير هنا سيعتمد على موقف الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. فإذا ما اختارا التصعيد (مشطوباً منه التدخل العسكري المباشر) وبدآ بتحريك أقليات شمال القوقاز من شيشان وأنغوش وغيرهما، فستنبعث “حروب القوقاز" من رقادها. وإذا ما جنحا إلى حصر الخسائر وضغطا على حليفهما الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي لتقنين طموحاته لدمج أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بالقوة إلى ممتلكاته، وللانضمام في الوقت ذاته إلى حلف الأطلسي، فقد تكون التهدئة واردة. لكنها على الأرجح ستكون تهدئة مؤقتة. فالمجابهة في القوقاز، كما لاحظ ديمتري ترينين المحلل في مركز كارنيغي في موسكو، “واسعة للغاية، وهي لا تزال في بدايتها الأولى". وهذا يعني، بكلمات أخرى، أن حرب أوسيتيا الجنوبية “ليست عبثاً لا طائل تحته"، كما قالت “فايننشيال تايمز"، بل هي في الواقع شجرة تختفي وراءها غابة كاملة من مشاريع الحروب والمجابهات.. وبالطبع المؤامرات. عن صحيفة الخليج الاماراتية 11/8/2008