جامعة قناة السويس تطلق الصالون الثقافي "رحلة العائلة المقدسة.. كنزا تاريخيا واقتصاديا وسياحيا"    ارتفاعات في أسعار الخضروات بأسواق المنيا اليوم الثلاثاء 7اكتوبر 2025 وسط ضغط على بعض الأصناف    أسعار الحديد في المنيا اليوم الثلاثاء7 اكتوبر 2025    مدبولي: تراجع التضخم نتيجة التنسيق بين الحكومة والبنك المركزي    وزير الاستثمار يبحث مع جهاز مستقبل مصر التعاون بمجالات دعم سلاسل الإمداد    إعلام سوري: توقف الاشتباكات بشكل كامل بين الجيش وقسد في حلب    وزير الأوقاف ينعى العلامة الجليل أحمد عمر هاشم    دراسة: واشنطن قدمت أكثر من 21 مليار دولار مساعدات عسكرية لإسرائيل منذ بداية حرب غزة    تامر الحبال: الشراكة المصرية السعودية ركيزة توازن واستقرار في الشرق الأوسط    وزير الخارجية يبحث سبل تعزيز التعاون مع سلوفينيا بالمجالات الاقتصادية والتنموية    فنزويلا تعلن إحباط هجوم على السفارة الأمريكية في كاراكاس    وزارة الدفاع الروسية: تدمير 184 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    عاجل- جوتيريش يدعو لوقف الهجمات الإسرائيلية في غزة واغتنام خطة ترامب لإنهاء الصراع    أبوريدة يصل المغرب لمساندة منتخب مصر أمام جيبوتي    8 مواجهات قوية في الجولة السادسة من دوري الكرة النسائية اليوم    أيمن الرمادي يدعم الزمالك في بيان مؤثر    الداخلية: ضبط قائد سيارة صدم معلمة وفرّ هاربا بالقاهرة    اليوم.. نظر محاكمة شقيقين متهمين بقتل سائق توك توك فى إمبابة    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. «الأرصاد» تحذر من طقس الساعات المقبلة    مصرع شخص وإصابة أخر في حادث على الطريق الدائري بقليوب    وزارة الثقافة تحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر بمشاركة نجوم الغناء العربي في دار الأوبرا    وزارة الثقافة: فوز "العناني" بمنصب مدير عام اليونسكو له الكثير من الدلالات    جائزة خاصة لفيلم الوصية في مهرجان الإسكندرية السينمائي    ماجد الكدواني: رفضت الهجرة لأمريكا في شبابي ولم أندم.. وعندي عقدة إخراج أول مرة    زاهي حواس عن اختفاء اللوحة الأثرية: كل واقعة تُثار لفترة قصيرة ثم تُنسى دون حلول حقيقية    وزير الصحة يتفقد مركز مجدي يعقوب للقلب ويؤكد دعم الدولة للتعاون البحثي والعلاجي    وزير الصحة يوافق على شغل أعضاء هيئة التمريض العالي المؤهلين تخصصيا لوظائف إشرافية    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 7 اكتوبر 2025 فى محافظة المنيا    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 7-10-2025 في محافظة الشرقية    نشرة مرور "الفجر".. كثافات مرورية متحركة بطرق ومحاور القاهرة والجيزة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الثلاثاء 7 أكتوبر 2025    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 7-10-2025 في محافظة قنا    حالة الطقس ودرجات الحرارة اليوم الثلاثاء 7-10-2025 في محافظة قنا    مصدر من ريال مدريد يحسم الجدل: لهذا السبب رفض النادي فكرة ضم رودري    أسعار اللحوم اليوم بمحلات الجزارة والأسواق في أسوان اليوم الثلاثاء 7-10-2025    غادة عادل عن عملية التجميل: قلت للدكتور مش عايزة أبان أحلى من الطبيعي    بكام الفراخ النهارده؟.. أسعار الدواجن وكرتونة البيض في أسواق وبورصة الشرقية الثلاثاء 7-10-2025    سعر طن الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 7-10-2025 بعد آخر ارتفاع.. حديد عز بكام؟    عاجل.. وفاة الدكتور أحمد عمر هاشم| وهذا موعد ومكان صلاة الجنازة    رسائل تهنئة 6 أكتوبر 2025 مكتوبة للاحتفال بعيد القوات المسلحة    موعد بداية امتحانات نصف العام الدراسي الجديد 2025- 2026    «وهم».. عرض جديد يضيء خشبة المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن مهرجان نقابة المهن التمثيلية    أبو ريدة يصل المغرب ويستقبل بعثة منتخب مصر استعدادًا لمواجهة جيبوتي    «بعد 3 ماتشات في الدوري».. إبراهيم سعيد: الغرور أصاب الزمالك واحتفلوا بالدوري مبكرا    منسيات 6 أكتوبر .. الاحتفاء بالفريق "الشاذلي" يُنسب إلى "مرسي" و"المزرعة الصينية" تفتقد القائد "عبد رب النبي حافظ"    محافظ الفيوم يشهد احتفالية الذكرى ال52 لانتصارات أكتوبر المجيدة    «عيدك في الجنة يا نور عيني».. الناجية من«جريمة نبروه» تحيي ذكرى ميلاد ابنة زوجها برسالة مؤثرة    بعض الأخبار سيئة.. حظ برج الدلو اليوم 7 أكتوبر    حزب "المصريين": كلمة السيسي في ذكرى نصر أكتوبر اتسمت بقوة التأثير وعمق الرسالة    تعرف على موعد بدء تدريبات المعلمين الجدد ضمن مسابقة 30 الف معلم بقنا    اشتغالة تطوير الإعلام!    «أكتوبر صوت النصر».. الجيزة تحتفل بذكرى الانتصار ال52 بروح وطنية في مراكز الشباب    الأهلي يكافئ الشحات بعقده الجديد    نائب وزير الصحة يحيل الطاقم الإداري بمستشفى كفر الشيخ للتحقيق    «هيفضل طازة ومش هيسود طول السنة».. أفضل طريقة لتخزين الرمان    ميثاق حقوق طفل السكر.. وعن سلامة صحة الأطفال    هاني تمام: حب الوطن من الإيمان وحسن التخطيط والثقة بالله سر النصر في أكتوبر    أمين الفتوى: وحدة الصف والوعي بقيمة الوطن هما سر النصر في أكتوبر المجيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفضاء المتوسطي: تاريخ مشترك، هل يمكن أن يؤسس لوحدة ؟
نشر في محيط يوم 11 - 10 - 2007

الفضاء المتوسطي: تاريخ مشترك، هل يمكن أن يؤسس لوحدة ؟

* سفيان الشّورابي

لم تكن محاولة تسويق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لمشروع بعث اتحاد للدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط نوعا من الابتكار المسجل لفائدته. و لا تتجاوز العملية تلك، في جزء منها، لعب دور رجل لدولة عظمى، يشتغل بالأساس على الدفاع عن مصالحها الممتدة و اللامتناهية. وهو معقول في هذا الجانب. و لكن من المؤكد، أن الروابط التي تجمع تلك البلدان أوسع من زاوية هذه الرؤية.

وهي متجذرة في غياهب التاريخ، و مكثفة نتيجة للتراكمات المتعلقة بالحاضر الراهن. ولو نظرنا ملية، لأعتقدنا في أننا لسنا في حالة ارتهان بتطلعات قليلة الجدوى، باعتبار ترسخ علاقات مرصوصة غير قابلة للاختراق، و لا تحتاج إلا لعملية تعرية و اكتشاف عن طريق تبني منهجا مغايرا و متجددا، ينأى تماما عن ما اكتسبته شعوب المنطقة من براثن سياسات بعينها أو من تحاليل ضاغطة إيديولوجيا أو من نتاج لبراديقم متحجر أو من سياقات مرتبطة بحوادث معزولة، لم تكن في جل الأحيان إلى جانب مصالحها. و على رأس تلك الأفكار التي تحتاج إلى بذرة شجاعة عميقة، ما هو متعلق بالغوص في الجامع ما بين دول اشتركت بقوة التاريخ و الجغرافيا و غيرهما كثير، في قطع كبيرة من الموحد فيما بينها.

وطبيعي في هذا المستوى، أن تتداخل فواعل كثيرة لقصف هذا الانسجام بغرض تفتيته و تجزئته، و إعلاء التباينات و التعارضات على حساب التقاطعات غير المحدودة. فتلك سنة التطور التاريخي. و لكن من المهم، من وجهة نظر تحسب للمستقبل أهمية مطلقة، إيثار ما يمكن أن يؤسس لتقارب متوازن و متعاون و متكافئ تسمو من خلاله مصلحة الجميع على حساب أهداف جزئية التصور.

Mare mediterraneum، ذلك هو الأصل اللاتيني لكلمة البحر المتوسط و الذي يقصد ب" البحر في وسط الأرض ". و لو تعمقنا ايتمولوجيا في المفردة، لعلمنا أن الجغرافي Solin الذي عاش في القرن 3 بعد الميلاد، هو أول من استعملها في نص مكتوب ليقصد هذا البحر، الذي تمتد مساحة مياهه على 2.5 مليون كم2، تبدأ من مضيق جبل طارق إلى حدود مضيق البوسفور، على مسافة 5 أيام من الإبحار على سفينة بسرعة 17 عقدة بحرية.

وأضاف Ludolph de Sudheim في القرن الرابع عشر بعد الميلاد " المتوسط هو البحر الذي عن طريقه نصل إلى الأرض المقدسة. سمي هكذا لكونه يفصل ما بين آسيا من الشرق، و أوروبا من الشمال و الغرب، و إفريقيا من الجنوب ".

ولكن، يدور في الذهن سؤال معقول؛ أين ينتهي المتوسط، أي الرقعة الجغرافية التي يصح تسميتها بالمتوسطية؟ هل يقف عند حدود امتدادات تأثيرات المناخ المتوسطي، أم يغوص في الأراضي الداخلية لدول لها إطلالات عليه؟ بيْد أنه، من الأكيد بأن هذه المنطقة تشترك، في مستوى أول، في البحر و المناخ و المشهد الطبيعي الواحد. وهي مؤثرات لها دلالات هامة تتضح بالخصوص من خلال ما عرفه المحيط الترابي المطل عليه من تواتر لجملة من الحضارات بالمفهوم الشامل للكلمة.

حضارات امتد إشعاعها إلى بقع متباعدة من العالم القديم. و من الحاصل الذي لا لبس فيه، ما للشعوب المتوسطية من دور جوهري في حصيلة التقدم الذي تتمتع بإيجابياته البشرية الآن. و الأهم في هذا الاتجاه، أنه رغم كون البحوث الانتربولوجية ما زالت غير مجمعة حول الموطن الأول لنشأة الإنسان البيولوجي، فان الكائن الحضاري الذي تجاوز عتبة المرحلة البدائية مرتبط ببؤر معروفة و معلومة، لعل أبرزها الأراضي القارية المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
فلا يمكن أن ننبش في التاريخ القديم و المعاصر دون أن نعرج بالضرورة على الفينيقيين و القرطاجيين و اليونانيين و الرومان و الجنوفيين و اليهود و البربر و الأتراك و البيزنطيين و الأندلسيين و النورمانديين و غيرهم كثير و لا يحصى. حضارات امتد إشعاع ثقافاتها و سطوة تجارتها و هيمنة عساكرها على مجالات جغرافية متفاوتة البعد.

وليس من اليسير، ولا هو من المطلوب في هذا النص الإبحار في أحقاب تاريخية موغلة في القدم. فالأمر يحتاج إلى مجلدات لذلك. ولكن، من المهم معرفة المغزى الممكن من تتالي أمم تجمع فيما بينها نقاط تماس كثيرة وعديدة يتم إغفالها اليوم بطريقة منهجية.

إن ما يمكن استنتاجه على هذا الصعيد، هو احتواء المنطقة المتوسطية على عدد من العقد المفصلية التاريخية، التي أفرزت تشكل البعض من أسس الوضعيات الحالية لحالة الصراع أو التحاور ما بين شعوب المنطقة.

فعلى ثراء التاريخ المتوسطي و خصبه، يمكن أن نختزل بعض اللحظات التي كان لها عميق الأثر على الفترات التي تلتها، و راكمت بشكل واضح في تنضيد شخصية و ذهنية عموم سكان المنطقة، وفي نحت جزء من المصير المشترك فيما بينها.

ففي عملية استرجاع خاطفة لتاريخ، ساهم في نسْج أطواره قوميات متباينة و عقليات متأثرة بمناخات فكرية مختلفة في الجذور، نكتشف روابط متينة و غليظة.

فمن الفينيقيين نحسب لصالحهم، نشرهم لحروف الكتابة لدى متساكني المتوسط، و رسمهم لخطوط الملاحة البحرية و استيطانهم لأراض جديدة و مجهولة. فمنذ القرن الثالث قبل الميلاد، توجه دور المدن الفينيقية Byblos وOugait و Tyr نحو التجارة البحرية لتصدير خشب شجر الأرز و الصبغ الأرجواني و المنتجات المصنعة من قبل المصريين، و استيراد الفضة من اسبانيا و القصدير من الجزر البريطانية.

ولا يكفي لليونان، من جهتهم، احتضانهم لمراكز نشر الفلسفة و العلوم بشتى أنواعها، بل غرسوا في العقل السياسي مفهوم الدولة- المدينة polis الذي نعيش أشكاله الحديثة اليوم. و شارك القادمون إليها من أمصار أخرى métèques les ( الأجانب القاطنين مدينة أثينا ) في التجارة مع السكان الأصليين. أثينا، أيضا، حافظت على المنطقة من توسع سلطان الفرس، عن طريق تأسيسها لرابطة مدن Délos. للتحول اثر انتصاراتها المتوالية إلى إمبراطورية متوسطية. وقد تميزت تلك الفترة بتطور العمران و الحياة البحرية و بظهور طبقات من الأثرياء الحضريين الذين حكموا شطئان البحر.

وكان للرومان الذين امتد تاريخ سطوتهم على 6 قرون بأكملها، منذ 168 ما قبل الميلاد، دورا نوعيا في نشر الثقافة و الفكر والفن، زيادة لمساهمتهم في تحديث السفن البحرية. فموانئهم حصرت بين أيديهم استيراد الحبوب من صقلية و من مناطق شمال البحر الأسود و من مصر، و الخشب من أنطاكية، و تصدير البضائع المصنعة و الخمور. سفن تجلب الفخار من الغال و المعادن القادمة من الشرق. كما لبست روما رداء الدعوة المسيحية و نشرت قيمه على البقاع التي انضوت تحت جناحها، وعلّمت جيرانها سنّ القوانين و أنماط مأسستها. و سمح الاستقرار في ذلك العهد Pax romana، بحرية تنقل الأفراد و الخيرات و تحقيق الأمن لم تعهده المنطقة من قبل. فالرومان هم أول من أسسوا جهازا للشرطة، و قاموا بمحاربة القراصنة. حيث أصدر، زمنها، مجلس الشيوخ أمرا بالقضاء عليهم، و قتلوا خلال بضع أشهر أكثر من 30 ألف منهم.

بيزنطة، المسيطِرة على أجزاء شاسعة من العالم القديم، لها هي الأخرى من المخلدات محافظتها على أرثوذكسية الدين المسيحي و نقائه، و ترسيخها في البنية الذهنية لمركزية الدين كأسّ للدولة، و ما تعيشه تركيا الكمالية هذه الأيام إلا أحد الأدلة على ذلك.

في حين استطاع الإسلام أن يمركز حوله كل جوانب الدنيا و ما بعدها. فيكفي أن التقت مجتمعات بأكملها حوله لتشعر بروابط قوية تعتقد في مستقبل واحد، رغم الانشقاقات المذهبية الفرعية المتتالية. وما يزال يمثل الإسلام، بشكل غريب، مصدرا لكل أركان الحياة لدى المسلّمين به، انطلاقا من تفاصيل الحياة الشخصية إلى صياغة الايتيقيا الجماعية، و حتى مقتضيات الاستيتيقيا الفردية. ففور انتشار المسلمين Sarrasins حسب ما كان ينعتهم به اللاتينيون في تلك الحقبة، حول المتوسط ( وصلت سيطرتهم إلى قبرص سنة 649، و قرطاج سنة 698، و صقلية سنة 727 ميلادي )، تحولت عصب النشاط الحضاري إلى جنوب الضفة. و كانت المراكز المدينية كتونس، و بجاية، و طرابلس، و الإسكندرية أهم المناطق المحورية في الحياة الإنسانية خلال الطور الأخير من الألفية الأولى. و استطاعت مصر "المسلمة" أن تستغل موقعها لتحقيق رخاء اقتصادي هام.

ثم كانت الإمبراطورية النورماندية الممتدة طيلة الفترة الفاصلة ما بين القرن الحادي عشر و القرن الثالث عشر، ففور اشتداد عود النورماند، نظموا الحروب الصليبية على المسلمين. وتمت إزاحة هؤلاء عن مدينة Campanie سنة 916 و Provence سنتي 972-973 و قضوا على بقية فلول البيزنطيين في ايطاليا الوسطى، و أسسوا دولة عظمى، عاصمتها باليرمو. و بهذا استفادوا من خليط و حصيلة المعارف و العلوم اللاتينية و العربية و البيزنطية، قبل أن تسقط مع انتشار وباء الطاعون سنة 1347 الذي انتقل إليها عن طريق الوفود التجارية القادم من مدينةCrimée و بلاد الغال.

و مثّل اجتياح المغول للمتوسط، نقطة تحول مصيرية بالنسبة للمتوسط. فبحلول شعوب آسيوية كانت تصنف بالبربرية و التخلف عن التطور الذي كانت تمر به المنطقة حينها، عاضدهم في ذلك الزخم الديني الذي دججهم به المماليك و القبائل العثمانية في آسيا الصغرى، بدأ عصر سيطرة الغربيين على المتوسط يتراجع على حساب أهل الشرق مع انهيار القسطنطينية سنة 1261 لفائدة المغول. لتشمل هيمنة هؤلاء، فيما بعد بقية أنحاء المنطقة، انتهت أمام أسوار مدينة فيانا سنة 1529. دولة عسكراتية نظامية وحدت دول و أمم متقابلة دينيا و ثقافيا و عرقيا. و لكنها أبت إلا أن تسقط هي الأخرى، بانهزامها أمام دون خوان النمساوي بمدينة Lépante سنة 1571.

في نفس ذلك الوقت، استطاعت لشبونة البرتغالية سرقة البعض من نفوذ العثمانيين مع تحول خطوط التجارة إلى أمريكا اللاتينية و آسيا عن طريق إفريقيا.

وظلت شبه الجزيرة الإيطالية تحت الاحتلال الاسباني توفر المعونات المالية و الجنود ( من ميلانو و نابولي ) و الحبوب من صقلية إلى الاسبان. فقط البندقية بقيت مستقلة عنها ( إضافة إلى مدينة Piémont ).

وتنهار الإمبراطورية العثمانية بسبب فساد إدارة الباب العالي و طغيان الأليغارشية العسكراتية على سدة الحكم لتتحول من قوة ضاربة إلى هيكل فضفاض، وكان التوقيع على اتفاقية الاستسلام Karlowitz سنة 1699 مع النمساويين الذين هاجموهم بمعية الروس و البولونيين نقطة بداية التراجع التركي الفعلية.

وفي أوائل القرن التاسع عشر، مثلت الفترة الاستعمارية التي صاحبت فترة الأنوار و انطلقت شرارتها الأولى مع احتلال الأنقليز لمالطا سنة 1800 و انطلاق الحملة النابولينية سنة 1801 على ايطاليا ، و احتلال الجزائر سنة 1830، الموعد الفيصل لاختلال التوازن من جديد، بين المسلمين و المسيحيين لفائدة هؤلاء حول السيطرة على مفاتيح المتوسط. ليستتبع ذلك الصدمة المعرفية التي ما يزال يترسخ صداها إلى الآن، رغم بعض محاولات عدد من المصْلحين في مصر و تونس و تركيا.

ولا نغفل على التطرق عن دور ثورة وسائل النقل بجميع أصنافها، وانتشار المواني الشاسعة و الضخمة، و تطور خطوط بحرية قارة ( مرسيليا-الجزائر سنة 1835، لندن-مضيق جبل طارق-الإسكندرية سنة 1838 )، في رصّ العلاقات بين سكان الضفتين، توازيا مع انطلاق السياحة أواخر القرن الثامن عشر.

وبخروج الفرنسيين نهائيا من الجزائر سنة 1962، طويت بشكل محدد الصفحة الاستعمارية، لتنتقل العلاقات المتوسطية إلى أطوار جديدة و مغايرة.

إن ما يمكن التوصل إليه بدرجة أولى، هو أنه لا يمكن اعتبار التفاف معظم هذه الحضارات على مدن مركزية بعينها ( الرومان/ روما، اليونان/ أثينا، الإسلام/ دمشق- القاهرة- اسطنبول... ) دليلا على انحسار موجة الرقي و الازدهار في مناطقها. فجدلية العلاقات المادية و غيرها بين الشعوب المختلفة في مستوى البنى الثقافية و اللغوية و العرقية على مستويات عدّة، لم تقف البتة حاجزا أمام إنماء جميع الأجزاء الفاصلة بين مختلف تلك الإمبراطوريات، وتنقّل الموجات البشرية بين أصقاع المكان. فالحركية البينية ( تجاريا، فكريا بالأساس ) لم تعبئ بصعوبة الروابط الجغرافية و لم تصطدم بحاجز المياه الفاصلة.

ويسلّم عدد من الباحثين بأن التوصيف الأساسي للحضارة المتوسطية بكونها تقوم على المدن و الحواضر بامتياز. حجتهم في ذلك مركزية المدينة و دورها المؤثر في تاريخ بلدان المنطقة. فالمدينة المتوسطية أشعت بقوة على محيطها الريفي و البدوي، و خلقت بشكل لافت معظم التمثلات و التعابير الخلاقة لمجتمعاتها.

وكانت محرار لدرجة تطور الفضاءات الجغرافية المجاورة لها. و نذكر على سبيل المثال، كيف ساهم بركان Vésuveفي تدمير حضارة بأكملها بمجرد قضائه على مدينة Pompéi سنة 43، و كذلك الزلزال الذي هز أركان مدينة Catane سنة 1693 و يطيح بمعالم النهضة التنويرية الوسيطة بالأنحاء المحيطة لها. و ما تزال المدن إلى اليوم، تعبر عن مركزية الفعل الحضاري، على الرغم من تعرضها لعمليات تغيير عميقة، كنتيجة لموجات النزوح الكبيرة التي شملت مدن الجنوب، و الهجرة الوافدة في فترة السبعينات من القرن الفارط للمدن الشمالية للمتوسط.

وتعتبر غالبية المدن المتوسطية قديمة النشأة، على الرغم من العديد من التحويرات الجذرية التي شملتها، و حافظت المدن التي بُنيت، بالخصوص، في عهود القرون الوسطى على سلامتها و صلابتها و عنفوانها و أشكال هندستها المعمارية و أهميتها على غرار قرطبة و غرناطة و البندقية. في مقابل ذلك، لم تستطع المدن الجنوبية، المحافظة على أجزاء من تاريخها، و اقتصر دورها بما هو مرتبط بوظيفتها الإدارية و التقني-سياسية، وانخفضت درجة تجذرها في الذاكرة الجماعية و وقع إضعافها و تقزيمها بسياسات بناء سكانية فوضوية و عشوائية.

ولا يمكن، من هذا المنظور، إغفال موقع الجزر البحرية في نسْج مكونات مخيال الشعوب المتوسطية و تكوين شخصيتهم. فالميثولوجيا الإغريقية تحفظ لنا كيف كان يتصور الإله Eros الجزر كشكل معبّر عن الإثارة و الانسجام، في حين كانت تتصوره Eris تضمينا للكراهية و للبغض.

فهناك ما يناهز 4000 جزيرة مساحتها أقل من 10 كم2، زيادة على 162 جزيرة كبيرة، تمثل جميعها نصيب 4 % من مساحة المتوسط. وما عدى جزر جربة و قرقنة التونسيتين و أرواد السورية، فان بقية الجزر متأثرة بالثقافات الوافدة من جهة الشمال. و ساهمت منذ القدم في تمتين أواصر التواصل بين الجانبين.

أما اليوم، فالمشهد المتوسطي العام يشوهه الكثير الاختلالات و التصدعات التي تضاعف من علو الجدار الوهمي الفاصل ما بين ضفتي المتوسط. تعبيرات ذلك تتجلى بصورة فاضحة، تكشف عن بقية الصور الثانوية. فالفارق بين الدخل الوطني الخام للدول المصنعة الواقعة في أغلبها على ضفاف شمال المتوسط تبلغ 7 أضعاف ذلك الناتج بالجنوب. في حين لا يفصل بين بعض أجزائها إلا بعض كيلومترات ( 15 كم ما بين اسبانيا و المغرب، و 60 كم تفصل بين ايطاليا عن ألبانيا الفقيرة ). و لا تقف هذه الحالة، على هذا الجانب فحسب، بل تمتد نتائجها بالتأكيد على بقية أجزاء الروابط القائمة بين دول الحوض.

إن الروح المتوسطية قائمة غير زائلة. و إذا كانت بعض الأقواس مازالت مفتوحة، واقفة كعائق أمام نحت تصور مغاير لتوحيد منطقة لا تزال تحتفظ بعناصر التقاء كثيرة. فمن أوكد الاولويات هنا، هو ضرورة إغلاقها، و إيجاد حلول نهائية تتيح للجميع فعلا العيش بأمان. " وبالتالي، يبدو من الضروري البحث عن الوسائل التي من شأنها خلق فرص اللقاء التي يمكنها إكساب الآخر القيمة و العمق التي كانت موجودة دائما في الحيز المتوسطي "، مثلما دعا إلى ذلك أدهم ألدم.

** صحفي من تونس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.