أوروبا وصراعات الشرق الأوسط الحسين الزاوي بين أوروبا وأمريكا يحدث تبادل غريب للأدوار بشأن أزمات الشرق الأوسط وصراعاته، ذلك أنه وفي بداية القرن الماضي قامت أوروبا الاستعمارية برسم حدود الأقطار العربية والإسلامية بطريقة مازالت تثير الكثير من الصراعات والقلاقل الإقليمية بين دول المنطقة، وحينما تراجع الدور الأوروبي بالمنطقة تحالفت أمريكا مع “إسرائيل" إلى حدود تبني الكيان المصطنع وجعلت من أمنه جزءاً لا يتجزأ من منظومتها الدفاعية والاستراتيجية. والآن وبعد سنوات من قليلة من إطلالتنا على الألفية الجديدة ودخول الأمريكيين في المستنقع العراقي الذي يعج بتناقضاته وتعقيداته التاريخية، يتنافس قادة أوروبا من ساركوزي إلى برلوسكوني مروراً بالمستشارة الألمانية ميركل من أجل الدفاع عن مصالح “إسرائيل" وكسب ودها.
لقد كان الاعتقاد الراسخ في مرحلة سابقة أن الأنظمة الديمقراطية الأوروبية تترجم بأمانة توجهات الرأي العام لشعوبها، أما الآن وعلى الرغم من انتشار مشاعر العداء للعرب والخوف من الإسلام في أوروبا، فإن الشعوب الأوروبية مازالت تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، وترى في “إسرائيل" دولة استعمارية وقمعية تخترق حقوق الإنسان جهاراً نهاراً وبكثير من التعنت والعناد والصلف الذي يصل إلى حدود التحدي والصفاقة. لكن الأنظمة الأوروبية، وعلى خلاف هذا التوجه الذي يعكسه الرأي العام، ترى في “إسرائيل" صديقاً يستحق التقدير والتبجيل، وتعتقد أن أمنها يجب أن يمثل أولوية الأولويات في كل تسوية مقبلة بالمنطقة.
ويمكن القول إن التغيرات التي حدثت على مستوى الساحة السياسية الأوروبية كانت مثيرة على أكثر من صعيد، فحتى قبل صعود أحزاب اليمين وتسلمها للسلطة في أكثر من دولة، عرفت الأحزاب اليسارية الأوروبية تغيرات عميقة منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار حائط برلين، وبدأت الهوة الفاصلة بين المواقف السياسية لليمين واليسار تتقلص، بل إن هناك أحزاباً يسارية أوروبية وصلت إلى مرحلة من التطرف على مستوى سياستها الخارجية تجاوزت فيها حتى مواقف اليمين التقليدي في أوروبا خاصة بشأن الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وأصبح الانتقال من اليسار إلى اليمين يتم بسهولة ويسر ومن دون ضجيج إعلامي، كما أضحت مواقف بعض رموز اليسار أكثر امبريالية بصدد ملفات المنطقة العربية، كما حدث مع حزب العمال البريطاني وتحديداً في عهد توني بلير. وبالتوازي مع ذلك كانت مواقف الكثير من أحزاب أقصى اليمين أكثر توازناً، حيث عبّر زعيم الجبهة الوطنية في فرنسا، على سبيل المثال لا الحصر، عن دعمه للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وعن رفضه للحرب الأمريكية البريطانية على العراق.
وعليه، فإن أوروبا بدأت تشهد تحولات لا علاقة لها بقيم الحداثة والتنوير التي بشّرت بها مراحل الثورات الفكرية، ويمكن أن نفهم طبيعة ما يحدث انطلاقاً من التغيرات العميقة التي تحدث داخل الوعي الأوروبي المشترك من جهة، وفي سياق المجتمعات الوطنية لكل دولة من جهة أخرى. خاصة وأن أوروبا تميزت طوال تاريخها بوجود تناقضات صارخة في وعيها الجمعي، فإلى جانب الدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان أفرزت أوروبا التوجهات النازية والفاشية والنزعات الاستعمارية والعنصرية. ورغم محاولاتها الهادفة إلى ادعاء الموضوعية، إلا أن مواقفها تجاه الصراع العربي- “الإسرائيلي" تبقى مرتبطة بل ورهينة للخلفيات التاريخية والحضارية التي تأسست وفقها الحضارة الأوروبية والمستندة إلى التراث اليهودي المسيحي المشترك، وهو التراث ذاته الذي يجعل الأوروبيين ينظرون إلى تركيا كجسم غريب لا علاقة له بالهوية المشتركة لشعوبهم.
والحاصل أن عودة أحزاب اليمين إلى سدة الحكم في معظم الدول الأوروبية لم تؤد فقط إلى موجة تعاطف غير مسبوقة مع “إسرائيل"، ولكنها جعلت كذلك الأوروبيين أكثر ارتباطاً ودفاعاً عن خصوصياتهم الثقافية، بحيث إن الأشياء التي ساهمت المصالح الاقتصادية في لملمتها، تأتي الخصوصيات الثقافية والخوف من نموذج الدولة المعولمة المغفلة والمجهولة الهوية، لتعيد بعثرتها بشكل يعيد عقارب الوحدة الأوروبية إلى الوراء. وذلك ما يفسر الرفض الذي تم التعبير عنه من طرف الأوروبيين بصدد الدستور الأوروبي أولاً ثم بصدد معاهدة برشلونة ثانياً. وهي الوضعية نفسها التي عبّر عنها وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين حينما أكد أن المواطن الأوروبي ليس مستعداً للتضحية بكياناته القومية لصالح مشاريع سياسية ودفاعية مشتركة غير قابلة للتجسيد في المرحلة الحالية.
لقد اعتقد الساسة من باب البراغماتية المغلوطة، أن الاقتصاد يمكن أن ينجز ما تعجز السياسة عن تحقيقه، لكن الوحدة الأوروبية حينما شرعت بتجاوز حدود ومقتضيات المصالح الاقتصادية لأعضائها من خلال السعي إلى التدخل في صلاحيات الدول الوطنية والقومية، بدأت تواجه معارضة شرسة من طرف الشعوب. فهناك عناصر رمزية تتجاوز في أهميتها كل المصالح الآنية والتي يمكن أن تدفع باتجاهها الملفات المستعجلة والملحة لمختلف أعضاء الاتحاد، لأن استراحة المحارب التي مرت بها الذاكرة التاريخية للأعضاء لا تعني تراجع قدرتها على التأثير في ترتيب الرهانات الكبرى لكل دولة.
وأوروبا التي تفكر بذاكرتها الثقافية، وليس من منطلق مصالحها الاقتصادية المباشرة فقط، تسعى بعض دولها وفي مقدمتها فرنسا إلى توظيف مشاريع التكتلات الجديدة كالاتحاد من أجل المتوسط، مثلما كان الشأن عليه مع مسار برشلونة، من أجل دعم الأمن والاستقرار على مستوى حدودها الجنوبية. ومع ذلك ورغم كل هذه الخلفيات غير الودية لمسلسل العلاقات العربية الأوروبية، فإن الدول العربية مضطرة ومدعوة بالتالي إلى التعامل بحكمة وتبصر وذكاء مع الآخر الأوروبي. فالعلاقات الدولية كانت وستبقى علاقات صراع ومغالبة، وفي سياق هذا الصراع نفسه تتحقق مصالح البعض وتتبخر أحلام البعض الآخر. عن صحيفة الخليج الاماراتية 9/7/2008