تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج الفيزياء الحيوية الطبية بعلوم القاهرة    محافظ المنوفية تطلق مبادرة «الأب القدوة» ترسيخًا لدور الأب في تأمين الكيان الأسري    «الأوقاف» تواصل ذبح وتجهيز لحوم صكوك الأضاحي لليوم الثاني على التوالي    عيار 21 بالمصنعية.. سعر الذهب اليوم الإثنين 17-6-2024 في سوق الصاغة    توافد المواطنين على حدائق القناطر الخيرية للاحتفال بعيد الأضحى| صور    جيش الاحتلال يحرق مباني بالجانب الفلسطيني من معبر رفح    النرويج تحذر من انهيار السلطة الفلسطينية بسبب جرائم إسرائيل    الرئيس السيسي يعود إلى أرض الوطن بعد أداء فريضة الحج    الكرملين: تصريحات الناتو بشأن نشر أسلحة نووية تصعيد خطير    تشكيل البنك الأهلي لمواجهة الجونة في الدوري    إيقاف عمرو السيسي لاعب فيوتشر مباراتين وتغريمه 20 ألف جنيه    حمامات السباحة مقصد الأطفال هرباً من درجات الحرارة في كفر الشيخ    عاجل.. تطورات مفاوضات الأهلي لحسم بديل علي معلول    بعد إعلان رغبته في الرحيل.. نابولي يحسم مصير كفاراتسخيليا    إشبيلية يعلن رحيل راموس واقترابه من الدوري الأمريكي    مصرع أب ونجله غرقا في الأقصر بثاني أيام عيد الأضحى    الصحة: نقل 27 من الحجاج المصريين لمستشفيات المشاعر المقدسة في عرفات ومنى    إصابة 64 رجل وسيدة أثناء ذبح الأضاحي بالشرقية    بالتزامن مع عيد الأضحى.. انطلاق الموسم الصيفي السياحي بمرسى مطروح    سينما الشعب تشهد إقبالا كثيفا بالمحافظات في أول أيام عيد الأضحى    ذكرى وفاة الشيخ محمد متولي الشعراوي.. دروب في حياة إمام الدعاة    محمود الليثي ينهار من البكاء في أول تعليق له بعد وفاة والدته    صحة الشرقية: انتشار مكثف للجهاز الإشرافي لمتابعة انضباط العمل في العيد    «الصحة» تقدم 5 نصائح لتجنب الحموضة في عيد الأضحى 2024    مدير صحة شمال سيناء يتابع الخدمات الطبية المجانية المقدمة للمواطنين    الإسكان: تنفيذ 1384 مشروعاً بمبادرة «حياة كريمة» في 3 محافظات بالصعيد    وزيرة التضامن الاجتماعي تتابع موقف تسليم الوحدات السكنية لبنات وأبناء مصر خريجي دور الرعاية    «رجل قسيس».. سميرة عبد العزيز تكشف مفاجأة عن أول أدوارها وسبب تسميتها «فاطمة رشدي الجديدة»    القبض على شخص بحوزته أقراص مخدرة بالخصوص    «النقل»: تشغيل محطة شحن الحاويات بالقطارات في ميناء الإسكندرية قبل نهاية العام    الصين تتهم الفلبين بتعمد انتهاك مياهها الإقليمية    «بطل مسلسل إسرائيلي».. من هو الممثل المصري مايكل إسكندر؟    غدا.. عزاء الموزع الموسيقي عمرو عبدالعزيز في مسجد النزهة بمدينة نصر    الفرق بين التحلل الأصغر والأكبر.. الأنواع والشروط    أدعية أيام التشريق.. «الإفتاء» تحدد عددا من الصيغ المستحبة    فسحة للقناطر بالأتوبيس النهرى والسعر على أد الإيد.. فيديو    نائبة الرئيس الأمريكي: أمتنا محظوظة بكونها موطنًا لملايين المسلمين    تعاون بين «التعليم العالي» و«الروس آتوم» الرائدة في التكنولوجيا النووية    كيفية تنظيف الممبار في المنزل بسرعة وبطريقة فعالة؟    «لست محايدًا».. حسام فياض يكشف صعوبات مسرحية النقطة العميا    وزيرة الهجرة تطلق «بودكاست» لتعريف المصريين بالخارج تاريخ حضارتهم    روسيا: لن نسمح بإعادة آلية فرض قيود على كوريا الشمالية في مجلس الأمن    اعرف آخر وقت لتقديم الأضحية ودعاء النبي وقت الذبح    وزير الإسكان: جهاز تعمير وسط وشمال الصعيد يتولى تنفيذ 1384 مشروعا    7 معلومات عن الطيار حسن عدس المتوفى بعد الهبوط في جدة.. «مكملش 40 سنة وغير متزوج»    وفاة خامس حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    حسم موقف سيرجو روبيرتو من الرحيل عن برشلونة    محافظ أسوان يتفقد المطعم السياحي متعدد الأغراض بعد التطوير    مسؤولون فلسطينيون: 16 ألف طفل قتلهم الاحتلال خلال الحرب على غزة    مصرع طفل صعقا بالكهرباء خلال شرب المياه من كولدير في الفيوم    مدير مجازر الإسكندرية: استقبلنا 995 ذبيحة في أول أيام عيد الأضحى.. والذبح مجانًا    إعلام فلسطينى: قصف إسرائيلى يستهدف المناطق الجنوبية لمدينة غزة    «المالية»: تخفيف الأعباء الضريبية عن محدودي ومتوسطي الدخل    الخشت يتلقى تقريرًا حول أقسام الطوارئ بمستشفيات قصر العيني خلال العيد    مواعيد مباريات اليوم الاثنين 17 - 6 - 2024 والقنوات الناقلة    الدولار يسجل 47.75.. أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه اليوم    حكم الشرع في زيارة المقابر يوم العيد.. دار الإفتاء تجيب    مصطفى بكري يكشف سبب تشكيل مصطفى مدبولي للحكومة الجديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتخابات التركية والتجربة التركية والإسلام والعالم المعاصر
نشر في محيط يوم 24 - 07 - 2007

الانتخابات التركية والتجربة التركية والإسلام والعالم المعاصر
رضوان السيد
ذهب الناخبون الأتراك الى صناديق الاقتراع يوم الأحد في 22 تموز (يوليو) 2007، على وقع تصريح رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة، وزعيم حزب العدالة والتنمية: ان لم نفز في الانتخابات بحيث نستطيع تشكيل الحكومة المقبلة منفردين، فسأعتزل الحياة السياسية! وقد قال لي صديقي، أستاذ الدراسات الإسلامية بإحدى الجامعات التركية الخاصة، وهو اسلامي متشدد: أنا لا أكره أردوغان على رغم عدم اقتناعي بصدق اسلاميته، فهو على كل حال أفضل من الأتاتوركيين، لكنني أسأل الله عزّ وجلّ بعد تصريحه المغرور أن يُهزم في الانتخابات بأي طريقة!
انه يقول يا صاح، مهدداً الشعب التركي: ان لم تنتخبوني وحدي فإنكم ستفقدونني، وسيكون ذلك خسارةً كبرى لكم! وقلت لصاحبي: لا أريد مجادلتك في فهمك لتصريح أردوغان، ولا مناقشتك في صدق ايمانه، لكنني أرى أنه قصد من وراء التصريح حشد الأنصار، وتحدي الخصوم. ولا شك في أن «التحشيد» كان غالباً على التحدي. أليس غريباً أن يكون أردوغان هو الذي يراهن على «الشعب»، وليس القوميين أو الأتاتوركيين أو العلمانيين (وهم بالمناسبة ثلاث فئات مختلفة، وإن تكن تبدو متحالفةً الآن)؟!
لقد حاول من قبل اقرار تعديل للدستور يشرع انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب، وها هو يلجأ الى الشعب في انتخاباتٍ مبكرةٍ لإقرار برنامجه المتعدّد الجوانب. وعلى رغم التحدي الذي خاضه العلمانيون والقوميون، والإعراض الذي مارسه الإسلاميون المتشددون، والمغامرة الكردية بالترشح في أحزابٍ ولوائح مستقلة، على رغم ذلك كله، فقد حقق حزب العدالة والتنمية انتصاراً ساحقاً بالحصول على حوالي ال48 في المئة من أصوات الناخبين، في حين كان حصل على 34 في المئة في الانتخابات السابقة.
وأقول ان الانتصار ساحق، لأن أي حزبٍ ما حصل على هذه النسبة من الأصوات في الخمسينات من القرن العشرين. وكنت أود أن أضيف الى خصوم الحزب في الانتخابات الى العلمانيين والقوميين والأكراد والمتشددين الدينيين، العسكر – لكنني أعلمُ مثل كثيرين، ان الضباط الكبار (والمؤسسة) هم الذين يكرهون الشعبويين الإسلاميين، وليس أفراد القوات المسلحة التركية!
والواقع ان التحديات ما انتهت بالفوز في الانتخابات النيابية، والقدرة على تشكيل الحكومة بالانفراد مثل السابق. فهناك تحديات قريبة، وأخرى متوسطة واستراتيجية. في التحديات القريبة، انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ثم خوض استفتاء (حكمت به المحكمة الدستورية) على تعديل الدستور، لانتخاب الرئيس من الشعب وليس عن طريق البرلمان، في المستقبل. في الأمر الأول نعلم الآن أن أردوغان كان جاداً وهجومياً عندما رشح قبل ثلاثة أشهر زميله عبدالله غل وزير الخارجية، للرئاسة.
وقد كان في وسعه أن يرشح مُحايداً قريباً أو أستاذ قانون أو حتى جنرالاً متقاعداً. لكن يبدو أنه نظر في اختياره ليس الى التحدي للعلمانيين بل الى ثقة الجمهور به، وأنه لا يريد أن يخيّب آمال ذاك الجمهور بالخنوع للعسكر، ولتحجُّر علمانية رئيس الجمهورية الحالي، الذي يكادُ يشبه الرئيس اللبناني العماد اميل لحود مع أنه ليس عسكري الأصول(!).
وبالفعل عندما فشل في الحصول على أكثرية الثلثين في البرلمان لغل، اقترح العودة الى الشعب، وانتخاب الرئيس منه مباشرة، لكن الرئيس الحالي (الذي انتهت مدته في أيار/ مايو الماضي)، والمحكمة الدستورية، كلاهما فرض عليه الانتخابات المبكرة، ثم انتخاب الرئيس، والاستفتاء من أجل المستقبل، أو من أجل انتخاب الرئيس إن فشل البرلمان الجديد أيضاً في ذلك.
وهكذا خاض الرجل وحزبه التحدي، لكن سيكون عليه أن يتحالف مع أحد الاحزاب التي تشكل اقلية في البرلمان على مرشحٍ توافقيٍّ للرئاسة. أما التحدي القريب الثاني فهو الاستفتاء على تعديل الدستور. وهو أسهل حكماً من الانتخابات النيابية، ومن انتخاب رئيسٍ بأكثرية الثلثين في البرلمان.
ولدى أردوغان تحديات متوسطة الأجل، أهمها الحاصل على الحدود بين تركيا والعراق. فمقاتلو حزب العمال الكردي اعتصموا بجبل قنديل وجواره، وجوار تلعفر، وعادوا يشنون غارات على الجيش التركي، وعلى المراكز والمخافر القريبة من الحدود العراقية والسورية مع تركيا. وقد حشد الجيش التركي بالفعل مئتي ألف جندي على الحدود مع العراق، وهدد مراراً باجتياح المناطق الكردية داخل العراق، والتي يتحصن فيها المقاتلون الأكراد المتسللون من تركيا، أو الآتون من المهاجر والمنافي.
بيد أن المشكلة أعقد من ذلك، وإلا لأغار الجيش التركي منذ زمن كما كان يفعل أيام صدام حسين، وحتى الغزو الأميركي للعراق. فالولايات المتحدة (حليف تركيا في الأطلسي وخارجه) تحتل العراق منذ العام 2003، وتحمي المناطق الكردية من ايران ومن تركيا، وربما تكون قد وعدت فأكثرت من الوعود للأكراد العراقيين. وهي وقفت حتى الآن في وجه الأتراك، الذين لم يرضوا أن يساعدوها في غزو العراق. لكن منذ اندلاع النزاع مع ايران، بدأت الولايات المتحدة تفكّر في طريقةٍ لإزعاجها، ومن ضمن ذلك ادخال تركيا على المشهد العراقي والعربي.
والذي أظنه أن الأميركيين ينتظرون الآن نتائج الاجتماع الثاني مع ايران من أجل العراق، أو يأذنون لتركيا بالدخول الى العراق، وقد تتطور مهمتها عندئذٍ من مكافحة المتمردين الأكراد، الى حماية التركمان في العراق، وفي المنطقة الكردية بالذات، فقد أعلنت تركيا مراراً أنها لا تقبلُ بتحول كركوك الى عاصمة لكردستان، لأنها مدينة تركمانية! وعلينا ألاّ ننس أن الكيان العراقي كله في الأصل كان من أسباب نشوئه اقامة حاجز بين ايران وتركيا. وقد كسبت ايران نفوذاً كبيراً في العراق بعد الغزو الأميركي، بقي حتى الآن على حساب العرب وعلى حساب وحدة العراق، لكنه يمكن أن يصبح على حساب تركيا أيضاً.
لكن من جهةٍ أخرى، بين تركيا وايران مصالح مشتركة في العراق ومن حوله، وأهمها معارضة قيام الدولة الكردية أو شبه الدولة في العراق المنهار، لما يثيره ذلك من مطامح وأحلام لدى أكراد ايران (4 ملايين)، وأكراد تركيا (12 مليوناً)! لذلك فالرهانات كبيرة في المدى القريب على ايران وتركيا، وهل يستطيع النظامان «التعاون» للحيلولة دون الاستقلالية الكردية، أو تتغلب الإغراءات الأميركية على تعفف تركيا فتدخل في المعمعة العراقية، على رغم ان الضرر من التدخل التركي، سيقع أول ما يقع على أكراد العراق، أشد حلفاء الولايات المتحدة حماسة حتى الآن؟!
وفي المدى المتوسط أيضاً يظهر التحدي الكردي في داخل تركيا. فقد عبّر الناخب الكردي بتركيا في الماضي عن احتجاجه على سياسات الإقصاء والتبعية والدمج القسري، بالإضراب عن الانتخابات، أو التحالف مع اليساريين في وجه القوميين الأتاتوركيين. وعلى رغم ان اسلاميي أردوغان يعرضون على الأكراد خيارات وحلولاً لم يقبلها القوميون الأتاتوركيون يوماً، ومن بينها اللامركزية والتنمية، فإن النُخب الكردية اختارت تكوين احزاب مستقلة بدلاً من اضاعة أصواتها مع اليساريين الذين لا يصلون أبداً الى البرلمان.
وبذلك تتجه تركيا الديموقراطية الى ما يشبه الدولة الثنائية القومية في مدى العقود المقبلة، على رغم ان الديموقراطيين الأتراك والإسلاميين لن يسلموا للأكراد في المدى المنظور بأكثر من اللامركزية التنموية. وهناك من يقول ان حزب العدالة والتنمية يتمتع بشعبية بين الأكراد المتدينين، لكننا نعلم أن الراديكاليين القوميين بين الكرد، هم الذين يسيطرون على العواطف، ويبعثون التمردات، ويحظون باستحسان أكثرية الرأي العام الكردي.
وتبقى التحديات في المديين الاستراتيجي والطويل. وهي تتعلق بهوية الدولة والنظام في الداخل، وبالتعلقات والأدوار في الخارج الشرق أوسطي، والأوروبي، وقد كان التوجه العلماني الأتاتوركي دائماً نحو الغرب، ونحو أوروبا. وهو توجه استراتيجي (في الحرب الباردة)، وحداثي (في مواجهة التقاليد والبنى المجتمعية الإسلامية).
لكن القوميين العلمانيين وغير العلمانيين، تضايقوا كثيراً من الإعراض الأوروبي عنهم، ومن انتصار الأوروبيين للأكراد وحقوقهم داخل تركيا، ومن تذكير تركيا دائماً بالمذابح الأرمينية، وعسكرية النظام ذي الوجه الديموقراطي. أما أردوغان، فقد خاض طوال السنوات الأربع الماضية نضالاً عنيفاً للدخول الى أوروبا، التي أدخلت قبرص ومالطا الى أحضانها، وظل مثقفوها وسياسيوها ورجال الدين فيها يقولون: ماذا سنفعل ب70 مليون مسلم جديد في أوروبا، إضافة الى الجاليات المسلمة المزعجة، ودول البوسنة وكوسوفو وألبانيا ذات الكثرة الإسلامية؟!
ولذلك، وفي ظل استصراخ «الضمائر» الأوروبية الرهيفة واللطيفة، انصرف أردوغان للامتداد باتجاه آسيا الوسطى والقوقاز، وباتجاه الشرق الأوسط العربي، بل وخاض محادثات استراتيجية مع ايران المتوجسة، وحقق الاقتصاد التركي قفزةً هائلةً (7 في المئة معدل النمو خلال السنوات الأربع الماضية)، كما تقدم النظام الديموقراطي في البلاد وعلى يد الإسلاميين الذين يشكك العلمانيون في ديموقراطيتهم، ولا دليل لهم على ذلك إلا الغطاء على رؤوس نسائهم، وإصرارهم على سحب الجيش من الحياة العامة، والتصالح مع الماضي ومع الناس البسطاء، وعدم استخدام البوليس والإجراءات الاستثنائية في مواجهة المعارضين والمتمايزين، مثلما كان القوميون يفعلون!
أما رؤى الإسلاميين والقوميين والتقدميين العرب لأردوغان ومشروعه، فإنها لا تختلف عن رؤى العلمانيين الأتراك، وإن اختلفت الأسباب. والطريف أن هؤلاء الذين لا يعجبهم الإسلام التركي، معجبون ومشدوهون بنظام «ولاية الفقيه» في ايران. وحجتهم في ذلك أن الأتراك أصدقاء لإسرائيل، بينما يُعينُ الإيرانيون المقاومين الفلسطينيين واللبنانيين ضد اسرائيل، ومحمود أحمدي نجاد يشتم اسرائيل وأميركا كل يوم! ولست في معرض الثناء على النظام الإيراني أو ذمّه، فهو نظامٌ اختارته أكثرية ساحقة من الشعب هناك، وإن كنت لا أرى فيه نموذجاً يستحق الاحتذاء من جانب العرب أو غيرهم، ثم ان ايران تساعد في فلسطين، لكنها تمارس سياسات الابتزاز والاستقواء في فلسطين وفي العراق، من دون أن يعني ذلك أن تركيا محسنة في صداقتها لإسرائيل، كما ان موقفها من غزو العراق كان أفضل من الموقف الإيراني.
ثم انه في النهاية لا نرى منذ ستين عاماً دماءً تسيل على الأرض العربية من أجل فلسطين إلا الدماء العربية وتحت الشعارات والأغطية القومية أو الماركسية وأخيراً الإسلامية!
بيد أن هذا كله ليس هو الموضوع. بل الموضوع هو هذا الانشقاق أو الصدع بداخل الإسلام، الذي فشلنا دولاً ومجتمعاتٍ في التعامل معه طوال العقود الأربعة الماضية، والذي فتت مجتمعاتنا، وأرهق كياناتنا، وحوَّل الإسلام الى مشكلةٍ عالمية. صحيح أن الدولة الوطنية أو القومية أو المدنية أو ما شئتم، والقائمة في ربوعنا، في العقود الأربعة الماضية، ما نجحت في عرض تجربةٍ أو نموذجٍ صالحٍ للعيش أو للاستمرار أو للدفاع أو للتنمية، بيد أن الإسلاميين المتشددين وغير المتشددين، لا يعرضون بدائل أفضل للعيش أو للتحرير أو للتنمية أو لحلّ المشكلات الإثنية والدينية.
ومن هنا تأتي أهمية التجربة التركية الجديدة في التصالح مع النفس والدين والتاريخ والآخر، ومع العصر والمستقبل. انهم يتحدثون ويفعلون في مجالات الدولة المدنية، دولة القانون والمؤسسات، وفي مجال التنمية المستدامة، وفي اخراج الشعب التركي من التناقض المفروض عليه أو القسر المفروض عليه بين دينه ودولته، وبين عيشه والشأن العام. ان مجتمعاتنا التاريخية خلفت تعدديات وإثنيات ومشكلات وتعقيدات وَعَيناها في الحداثة، وما استطاع حلها القوميون الاندماجيون، ولا الإسلاميون الأشد قسوة واندماجية.
القومي العسكري يريدك أيها الكردي أو الأمازيغي أو الإسلامي، أن تهدأ وتسكن وتخضع فلا يتعرض لك، فالمهم التلاؤمية الى حدود الإلغاء. لكنك مع الإسلامي الجديد لن تبقى على قيد الحياة حتى لو تلاءمت. فالإسلامي أقل تقبلاً من القومي للمختلف، والسودان المعروف مجتمعه بالتعددية الهائلة منذ قرون، تصدع تحت ضربات القوميين، ثم انهار تحت وطأة الإسلاميين! أما النظام الإسلامي الإيراني فيُنكر وجود أي مشكلةٍ قومية أو دينية على رغم وجود السنّة والعرب والأذريين والأكراد والبلوش! وما استطاع الإسلام المدني والديموقراطي والتعددي التركي أن يحل مشكلات تركيا الإثنية أو القومية أو الدينية الموروثة خلال السنوات الأربع الماضية، لكنه فتح الباب - وسط ظروفٍ وشروطٍ قاسية - لأفكارٍ كثيرةٍ، وممارساتٍ كثيرة، في شتى المجالات، ومن ضمنها المُشكلان: القومي والديني، وسط ارتياحٍ اقتصادي، وانفتاحٍ مؤسسي، وخطوط ازدهارٍ وتألق في الاتجاهات كافة.
لذلك كله، اعتبرت التجربة التركية مع الديموقراطية، ومن جانب حزبٍ اسلامي، امكاناً يعد بالنجاح، في الخروج من الصدع الذي أصاب ديننا، وأصاب اجتماعنا الإنساني، كما أصاب أنظمتنا السياسية. وقد تنجح التجربة هذه في المدى المتوسط وقد لا تنجح. لكن الانتخابات التركية الأخيرة أمارة على اتجاهٍ صحيحٍ في طريق النجاح: كُلّ الجِمال بتعارِك إلاّ جملنا بارِك!.
عن صحيفة الحياة اللندنية
24 / 7 / 2007


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.