لا أستطيع أن أمنع نفسى من المرور على منطقة المذبحة .. "العباسية" ، آه لو تغير الحال واستطعت أن أدرس بجامعة خلاف جامعة الأزهر ، تلك الجامعة التى يكلفنى طريقها يوميا كميات هائلة من الأحزان .. فى رحلتىّ الذهاب و الإياب . بمجرد أن ينطلق "الميكروباص" من ميدان رمسيس ، تبدأ تلك الذكريات الموحشة فى الإستيقاظ داخل صدرى .. خاصة بعد مرورنا من ميدان غمرة ، ليمر أمام مستشفى القلب ، هنا ،أمام تلك المستشفى كان الكمين المنصوب لنا من البلطجية .. هنا انتظرونا ، يفرغون فى وجوهنا و صدورنا رصاصات أسلحتهم ، و تستقبل رؤوسنا طوب نسائهم من نوافذ عماراتهم .. و تلك الحارة اللعينة ، لا أتذكر اسمها ، لا أدرى أهو غرب أم درب دقلاش ، حتى و إن كان الإسم خلاف ذلك فأنا لا أريد تذكره .. هنا فى تلك الحارة هربنا فارين من رصاص البلطجية الذى يأتينا من أمامنا ، و رصاص الجيش الآتى من خلفنا .. تجمعنا ألوفا فى تلك الحارة الضيقة الطويلة هاربين تجاه شارع رمسيس .. ينقذنى السائق مؤقتا بسرعته ليتوقف قليلا قبيل مطلع الكوبرى عند مسجد النور ، هنا أعود مرة أخرى لإسترجاع تاريخ الجمعة المشئومة .. فى ساحة الإنتظار هذه تجمعنا .. بعد أن هربنا من قنابل الغاز التى ألقاها الجيش ناحية النفق .. خرجنا وسط تصفيق حار من الأهالي المحيين لنا على إنسحابنا ، ثوانٍ و فوجئنا بفيضان من قوات الجيش تهاجمنا عند تلك الساحة ، حاولنا الهرب ناحية شارع رمسيس ، لكننا فوجئنا بشباب أقنعونا بأن البلطجية ينتظروننا عند محطة الدمرداش ، و لابد أن نأخذ الطريق الأخر .. بالفعل صدقناهم ، لنجد أنفسنا محاصرين فى كمين منظم . بمجرد أن يصعد السائق الكوبرى ، يظهر أمامى المشهد كاملا من أعلى .. هنا قتل أبو الحسن .. و هنا دُمّر وجه عاطف الجوهرى ، و هنا أصيبت عين "ميدو" زميلنا فى مجموعة الأميرية .. إلى هنا تنتهى مأساة رحلة الذهاب إلى الجامعة . أما عن رحلة الإياب فحدث ولا حرج ، فور عبور الميكروباص كوبرى 6 أكتوبر و نزوله فى شارع رمسيس .. يبدأ الشريط السينمائى الذهنى فى العرض .. فبعد أن خرجنا من تلك الحارة اللعينة وجدنا شارع رمسيس هادئا يخلو من أى مظاهر للعنف على أى حال .. هنا قد أدركنا الفخ .. سرنا هادئين متجهين إلى محطة مترو غمرة .. و لكن الهدوء لم يدم طويلا .. فعند كوبري المشاة الواصل بين شارع رمسيس و منطقة عزبة "أبو حشيش" فوجئنا بفيضان من حاملى الأسلحة البيضاء يهرولون ناحيتنا من فوق الكوبرى ، و قام أحدهم بضرب خرطوشة رأسيا .. و كأنها كانت العلامة لساعة الصفر .. إذ فوجئنا بعساكر الجيش يخرجون علينا هم و البلطجية من ناحية شارع أحمد سعيد ، و أيضا من خلفنا تتحرك المدرعات ناحيتنا .. صار الأمر عصيبا .. الموت يحلق فوق الرؤوس كالصقر . فى تلك اللحظة ، حدث المشهد الذى لن أنساه طيلة عمرى .. شاب سلفى ، ينطق الشهادتين و يجرى مسرعا ناحية رمسيس محاولا تفادى العسكر والبلطجية ، و لكن محاولته باءت بالفشل .. إذ إستقبله شخص بسكينته ليمررها بعرض بطن الشاب السلفى معلنا نهاية حياة ذلك الشهيد .. لم أستطبع التحمل أكثر من ذلك ، فقفزت إلى شريط مترو الأنفاق سائرا عليه إلى محطة غمرة ولحقت بآخر قطار توقف عليها قبل إقتحام الجيش لها . نعم ، قُتلوا .. قُتل الأطباء و المهندسين و حفظة القرآن و المعلمين و الكتاب و المثقفين على يد بلطجية خريجى سجون .. قُتلوا تحت رعاية المجلس العسكرى . أيا العباسية ، يا تلك المنطقة التى قتلتنا .. أهؤلاء هم سكانك .. أم أنك مازلت تحتفظى بقلة يسكنها العزة .. و لكن لم تخرجيهم لمناصرتنا و أخرجتى من قام بقتلنا و فقأ أعيننا؟؟ .. أخرجيهم و إلا ستبقى في نظرى منطقة الموت المحرم علىّ السير فيها على قدماى .