أراد والدان أمريكيان أن يتنبآ بمستقبل ولدهما المهني وقررا أن يختبراه، فوضعا ورقة نقدية من فئة العشرين دولارا وإنجيلا وزجاجة ويسكي على الطاولة. وقال الرجل لزوجته: "إن أخذ الولد الورقة النقدية فسيكون رجل أعمال ناجح، ولو أخذ الإنجيل فسوف يكون دين، أما لو تناول زجاجة الخمر، فإنه بلا شك سيكون مدمنا." ولأن الأم تثق في عبقرية زوجها عالم النفس الشهير، وافقت أن تحبس نفسها وأنفاسها مع زوجها خلف باب الحمام الخاص بالغرفة ليراقبا الولد سرا دون أن يشعر بوجودهما. وجاء الولد، فرأي الخيارات الثلاث مطروحة على طاولة الاختبار، فتناول الورقة النقدية ودسها بسرعة في جيبه. عندها، فرح الأب كثيرا لأنه كان يرغب في داخله أن يرى ولده من علية القوم، لكن الولد سرعان ما فاجأه حين تناول الإنجيل ووضعه في جيبه الآخر. عندها قال الأب في نفسه "لا ضرر أن يكون الولد رجل أعمال صالح رغم صعوبة التوفيق بين الخيارين." لكن الدماء تجمدت في شرايين الأب وهو يرى ولده يتناول جرعة من الخمر قبل أن يضع الزجاجة تحت إبطه وينصرف. وحين سألت الأم المشدوهة زوجها عن مستقبل ولدهما، أجاب متحسرا:"سيكون ولدك سياسيا يا امرأة." فالسياسة في جوهرها فلسفة الجمع بين المتناقضات، أو قل هي شعوذة فكرية تحاول أن ترصف المستحيلات جنبا إلى جنب في طوباوية غريبة وتلقائية نادرة، حتى يختلط الحابل بالنابل ويتداخل سواد اللون مع بياض اللوحة فلا يفرق الناظر بين لون ولون أو بين سحابة وسماء. لكن الخطير في الأمر أن يثق رجال الدين بنواياهم ويلقوا بأنفسهم في أتون السياسة وهم لا يدركون أن عاهرة تأكل بثدييها لا تحنث بعدها كما يحنث سياسيو العصر، وأنهم يُعَرِّضون سمعة المتدينين ومستقبل الدين لخطر عظيم إن هم حنثوا بأيمانهم التي عاهدو الله والناس عليها على ملأ من كاميرات الكون التي تصور كل خالجة وخاطرة. مقبلون نحن على معركة كسر عظم بين إسلاميين رفع الناس أسهمهم في بورصة السياسة ورفعوا شعاراتهم على نواصي المدن وخواصرها ووضعوا أسلحتهم ظانين أنهم أنهوا ثورتهم عند صناديق الاقتراع وعادوا إلى بيوتهم ليتركوا الميادين للبلطجية والباعة الجائلين، معركة يحتدم أوارها تحت قبة البرلمان وفي ساحات المحاكم وكافة المنتديات المادية والعنكبوتية بينهم وبين أقوام يتربصون بالدين والمتدينين، ويحاولون الهمز واللمز وقطع الطريق إن لزم أمام كل من يطالب بعودة الناس إلى رب الناس أو بعودة الدين إلى معاملات الشعوب ودساتيرها، لكنهم بخبث مفضوح يحاولون تصوير الحكاية على أنها مجرد تخوف مشروع من العودة إلى مجاهل القرون الوسطي بلحى لا تحمل فضيلة وجماجم لا تحوي فكرا. وللأسف يكرس بعض الإسلاميين تلك الفكرة بنظرة ضيقة ومتعصبة لا ترى في الدين إلا جلبابا ومسواكا، ولا تعرف عن الدين إلا التشريعات والحدود، فيتكلمون عن الإسلام وكأنه ملكية خاصة لكل من انضم إلى حزب إسلامي أو أقسم يمين ولاء أمام الحاكم بأمر الله رئيس الجماعة. ولو قدر لهؤلاء أن يتلقوا تعليمهم الديني في أجواء غير التي تلبدت بها سماء الوطن ردحا غير قصير من الزمن، لجاء فهمهم للإسلام أعمق، وتسامحهم مع من خالفهم أشمل وأعم. وبين هؤلاء وهؤلاء، يقع غالبية عظمى من البسطاء يريدون أن يسود عدل الله في أرض الله بعد أن ملأها الفجار فسادا وكفرا، ويريدون أن يطهروا قلوبهم وصدورهم من رجس الأخطاء والخطايا التي أركسهم فيها نظام أباح كل شيء إلا الطهر، وحرم الناس من دخول بيوت الله آمنين غير مراقبين من عسس الليل وزوار الفجر. يريد البسطاء أن يعودوا إلى ربهم دون وصاية من أحد أو اعتراف أمام كاهن يلبس العمامة. يريد الناس أن تكون العلاقة بينهم وبين الله دون وسيط من إمام أو ولي يتملقونه ليقربهم من الله زلفى. هؤلاء البسطاء يجدون اليوم أنفسهم ضحايا لصراع لا ناقة لمستقبلهم فيه ولا جمل، فترى بعضهم يميل إلى الجماعات الإسلامية على افتراض أنها الأقرب إلى الله، ويَزْوَرًُّ عنهم البعض لما يلمسه من مخالفات للنهج الذي كان عليه النبي والسلف الصالح، ويتهمهم البعض ويفسقهم البعض، وتمتلئ أروقة الفكر بملفات لا علاقة لها بدين ولا أمل من ورائها في إصلاح دنيا. فليعلم الطيبون من الإسلاميين الذين تبوءوا عروشا لا تدوم لأحد أن مستقبل الإسلام في مصر وفي ربوع العالم كافة مرهون بقدرتهم على التوفيق بين ما يُصلح معايش الناس ويصلح دينهم. ولتقوا شبهات الأنانية والحيد عن منهج الله تحت أي دعاوى زائفة، وإلا فإنهم أمام الله وأمام التاريخ بعد أن أسلم الناس لهم قيادهم مسئولون. وليتذكروا أن حانة ملأى بالعاهرات من كل الملل لا تفسد البلاد كما يفسدها توقيع على بيع قضية فيها صلاح البلاد وصالح العباد. ذهب أحد اللاهين إلى بيت عاهرة تبيع جسدها لكل من يدفع الثمن، فأعجبه فراش البيت وأناقة مفروشاته، فلما سألها عن ذلك، أخبرته أن والدها كان سياسيا صاحب ذوق عال. فلما سألها لماذا لم تسلك درب أبيها أجابت: "لأنني لم أصل إلى تلك الدرجة من العهر بعد."