روايات السماء حددت 40 سنة تاه فيها بنو إسرائيل فى صحراء سيناء حتى انتهى التأثير المعنوى والفعلى للأجيال التى رفضت أن تحارب- تحت راية نبى الله موسى- غير الموحدين، و40 سنة كانت وقتا كافيا لأن تختفى من الساحة هذه الأجيال وتأتى بدلا منها أجيال تمتلك شجاعة الدفاع وجرأة التضحية التى تكفى لنصرة قضاياها! .. وفى 5 يونيو من هذا العام يمر 42 عاماً على نكسة 67 فهل يعنى هذا أن الأجيال التى انكسرت جراء هذه النكسة انتهى دورها الفعلى فى حياتنا العامة؟ وإن سنوات الملطمة والحساب انقضت؟ وإن أجيالا مصرية تحمل الآن شجاعة إدارة الصراع مع أعداء الأمس حتى ولو كان هذا الصراع معركة سلام؟! -1- والمتأمل فى تصاريف القدر ربما يهديه الواقع إلى ملاحظة أن هناك 3 مصادفات تتزامن هذا العام تقريباً مع ذكرى نكسة 5 يونيو 67 وإن بدت أنها ليس لها علاقة مباشرة بالحدث، المصادفة الأولى هى زيارة الرئيس أوباما للقاهرة فى 4 يونيو وطرحه خلال هذه الزيارة لمبادرة سلام «جديدة» بين العرب وإسرائيل. والمصادفة الثانية هى حكم محكمة القضاء الإدارى بإسقاط الجنسية عن الرجال المصريين الذين تزوجوا من نساء يحملن الجنسية الإسرائيلية. أما المصادفة الثالثة فهى صعود نتنياهو وليبرمان رمزى اليمين الإسرائيلى المتشدد للحكم فى إسرائيل. وإذا ما جمعنا هذه المصادفات فسوف نكتشف أن الصراع الذى بلغ ذروة مأساته منذ 42 عاماً ما زال ممتداً فى إشكاليات يتعلق أكثرها الآن بالسلام وليس الصراع المسلح بين الأطراف الرئيسية الثلاثة (مصر وأمريكا وإسرائيل). -2- الملف معقد أكثر بكثير مما يبدو، ومن فرط السذاجة أن نتعامل معه بمنطق التفاؤل والتشاؤم، لكن هذا لا يمنع إلا أن نرحب بالإشارات والمبادرات الأمريكية نحو المسلمين والعرب إجمالاً ومصر تحديداً، وأيضاً دون أن نحملها أكثر مما تحتمل أو نُحمِّل الرئيس الأمريكى أوباما نفسه أكثر مما يحتمل.. كأن نعتقد أن هذا الساحر سوف يضع أمامه خريطة الشرق الأوسط ويلمس بإصبعه تلك المساحة الملتهبة فيحرق الشياطين التى تسكنها ويصعد بالأخيار يحملون غصون الزيتون وتقوم دولتان واحدة إسرائيلية (وليست يهودية) والثانية فلسطينية تتقاسمان القدس ليصير شطرها الغربى عاصمة لإسرائيل والشطر الآخر الذى يحوى المقدسات الإسلامية عاصمة لدولة فلسطين المستقلة التى تستوعب المطرودين والمنفيين والمبعدين عن وطنهم ومسقط رأسهم، وتتمتع فلسطين بكامل حقوق الدولة كما عرفها التاريخ الحديث.. هل يمكن أن نستفيق من هذا الحلم الجميل على الحقيقة التى أعلنها وزير الخارجية الإسرائيلى أفيجدور ليبرمان والتى نحاول أن ننساها فيذكرنا بها هذا المتطرف حين يقول: «إن إسرائيل والولاياتالمتحدة متفقتان على أهدافهما الاستراتيجية لكنهما مختلفتان على التكتيك الواجب اعتماده لتحقيق هذه الأهداف». -3- وأكاد أسمع واحداً من غير المتشائمين يقاطعنى فيقول: لكن مسألة السلام فى الشرق الأوسط أو تحديدا إقامة دولة فلسطينية مستقلة هو أمر يصب فى مصلحة الأمن القومى الأمريكى، هكذا أعلن أوباما وتردد هذا المعنى بقوة خلال الشهرين الأخيرين داخل الإدارة الأمريكية.لكننى أحيل صاحب هذا الرأى مرة أخرى إلى زلة لسان وزير خارجية إسرائيل المتهور الذى لم يتعلم شغل السياسة على طريقة أسلافه الحمائم منهم قبل الصقور والذى قال بما لا يدع مجالاً للشك ما معناه: لا تعولوا كثيرا على ما يقوله أوباما، وهذا لا يتنافى مع حقيقة أن التهدئة فى الشرق الأوسط مطلب للأمن القومى الأمريكى الآن، بل أكثر من هذا مطلب للأمن القومى الإسرائيلى الذى بات يتهدده بشكل أكبر السلاح النووى الإيرانى ليتصدر الصراع الإسرائيلى- الإيرانى المشهد، بينما يتراجع الصراع الفلسطينى ليتحول إلى صراع جانبى. وإذا كان الإسرائيليون مرعوبين من امتلاك إيران للسلاح النووى وإلى الدرجة التى يهدد فيها ثُلث سكان إسرائيل بالهروب منها إذا تحقق هذا، فإن أمريكا يتهدد مصالحها وأمنها القومى قضايا أخرى، وتتسع جبهة صراعاتها المشتعلة فى العراق وأفغانستان وكوريا الشمالية، فهل تريد الإدارة الأمريكية أن تجبر إسرائيل على تنازلات تكتيكية على الأقل فى هذه المرحلة لتضمن حياد العرب فى هذه الصراعات وخاصة ضد الدولة الفارسية؟! حتى إذا كانت الإدارة الأمريكية تريد هذا فإن اللوبى الصهيونى فى أمريكا من اليهود وغيرهم والأغبياء فى الحكومة اليمينية الإسرائيلية لا يريدون تقديم أقل التنازلات حتى وإن كانت وعوداً!! -4- موقف مصر الرسمى يعكس إدراكاً كبيراً لكل ما سبق، ويتجلى هذا الإدراك فى تصريحات رسمية صدرت لصحيفة «هآرتس» الإسرئيلية، حيث أعلنت فيها الخارجية المصرية أن خطة مصر للسلام تقتضى الحصول على ضمانات أمريكية لتنفيذ المبادرة العربية وفقاً لصيغة «دولتين لشعبين» ووفق جدول زمنى صارم لحل الصراع العربى الإسرائيلى ترعاه الولاياتالمتحدةالأمريكية.. وتشمل الخطة المصرية أيضاً الدفع باتجاه استئناف المفاوضات بين سوريا وإسرائيل للوصول إلى حلول عادلة فى هذا المسار تعيد للشقيقة سوريا حقوقها، ولم يثن احتفالية الترحيب بقدوم أوباما مسئولى الخارجية المصرى من التحذير والإنذار أنه إذا لاحظت مصر أن إدارة أوباما مستعدة للمساومة على مبدأ الدولتين فسوف تفهم أن أوباما لا يختلف عن سابقه جورج دبليو بوش. -5- هذا خطاب جيد، لكنه يبقى مجرد كلام إذا انتظرنا وعولنا كثيراً على الساحر الأمريكى دون أن نسانده وندفع ونضغط بأقصى ما نستطيع ونظهر له ولإدارته أننا لن نفوت الفرصة وأننا تعلمنا درس التاريخ منذ 42 عاماً حين خذلنا أقرب الأصدقاء وتركونا نحارب بمفردنا إسرائيل وأمريكا فى حرب 67، وأنه حين اعتمدنا على أنفسنا فى 73 انتصرنا، وأنه بعد هذه المعركة قرر الأعداء أن يحاربوننا بالسلام وبالزحف الهادى لاختراق مجتمعاتنا العربية وتفكيكها سياسياً لتحويلها إلى دويلات (كما هو مخطط للعراق والسودان وغيرهما من الدول العربية) وكذلك تفكيكها اجتماعيا بخلق منظومة قيم جديدة يتم من خلالها قبول هذا الآخر الذى كانت هذه المجتمعات العربية تحاربه وترفضه من قبل من موقف عداوة، وهذا ما حدث من قبل فى أوربا وفى أمريكا وفى دول كانت تطارد هذا الآخر وتطرده إلى أن هداه تفكيره إلى طرق شيطانية لاختراق هذه المجتمعات والسيطرة على مراكز صُنع القرار فيها وتوجيهها لخدمة مصالحه وعبر تنظيمات سياسية واجتماعية معلنة أو باستخدام الأسلحة القذرة مثل الجنس والمال والتجنيد المباشر إذا احتاج الأمر.. هذا ما عرفناه من درس التاريخ. *** والآن هل أدركتم معنى ودلالات المصادفات الزمنية التى دارت هذا العام حول ذكرى 5 يونيو كما أشرت لها فى البداية ؟!