أسماء عديدة مرشحة من قبل الرأى العام فى مصر الآن لشغل منصب الرئيس القادم. أسماء متميزة فى وظائفها ومهنها الخاصة. وأغلبها ليس لها دور سياسى ولا أبلت بلاء حسنا أو غير حسن فى ميادين العمل العام، وهى أقرب إلى وجهاء الإداريين والمهنيين والدبلوماسيين والعسكريين . وهذا لا يمنع أن بينهم علماء كبارا فى قامة أحمد زويل، وأطباء نوابغ فى مستوى مجدى يعقوب، وموظفين ساميين بحجم محمد البرادعي. والتميز أو النبوغ هنا محسوب فى ميزان القيمة والوزن الوظيفى والمهنى . وليس كافيا وحده لإدارة مجتمع بتعقيدات المجتمع المصري، ولا لحكم بلد بحجم مصر. وليس فى هذا تقليلا من قدر أحد. خاصة أن الهدف من التناول هو رفع سقف الحوار المجتمعى حول الشخصية المطلوبة ومواصفاتها . و يقتضى هذا طرح سؤال مبدئى عن قدرة الفرد أيا كان نبوغه ليكون بديلا عن الحراك السياسى الفاعل، والضاغط الساعى لبلورة مواصفات موضوعية وسليمة لرئيس الدولة القادم، وآخر يركز على القدرة والرغبة قبل الاسم والصفة. وتغييب الناس لا يمكن أن يكون مقبولا بعد عقود من التغييب التى طالت أكثر من اللازم. خاصة أن ذلك القادم من رحم الغيب ليس حلقة فى سلسلة حكم جمهورى متواصل. فالحلقات تقطعت بخنجر التوريث. والنظام الجمهورى أصبح فى خبر كان وفى عداد الموتى. وذلك القادم لن يجد نظاما أو مؤسسات وآليات تستجيب له فور شغله المنصب، ولن يكون وصوله إيذانا بعودة تلك المؤسسات والآليات المحطمة والمدمرة إلى ما كانت عليه، ثم تحديثها والارتقاء بأدائها. والمشكلة الحقيقية هى فى إدارة الحكم فى السنوات العشر الأخيرة، على الأقل، بنظرية 'ابنى بيساعدني'. القادم الجديد سيتحمل عبء تأسيس نظام بديل ، ثم تطويره كى يستجيب للطموحات العامة لشعب عانى كثيرا من وطأة الاستبداد والفساد والتبعية والإفقار. لا يكفى فيه إزاحة عائلة مبارك من مواقعها السياسية والاقتصادية والمالية. إنما يبدأ التأسيس بإنهاء سيطرة رجال المال والأعمال والاحتكارات على الحكم، واستعادة القرار الوطنى المستقل. هذا لا يتم بالقرارات والمراسيم فحسب، بل بالإجراءات والحشد والتعبئة فى مواجهة منظومة القيم الفاسدة التى حكمت مصر لما يقرب من أربعة عقود. والقادم من رحم الغيب، إذا كان وطنيا، سيكون الأكثر احتياجا للدولة وعودة مؤسساتها وسلطاتها، وصياغة علاقتها ووجودها مع المواطن من جديد. ومع كل هذه التعقيدات لم نلحظ اسم مرشح امتلك مشروعا أو رؤية تضع هذه المهمة فى حسابها . إذن الأمر ليس أمر البحث عن مواطن صالح لشغل منصب رفيع، إنما البحث عن رجال قادرين. لديهم مشروع اجتماعى واقتصادى وتنظيمى كفء يأتى معبرا عن مصالح أوسع القطاعات، وملبيا لاحتياجات الشعب بفئاته وقواه وطبقاته . أغلب الأسماء المطروحة مقدرة ولها مكانتها وحضورها الشخصى والإعلامي. يغلب عليها أنها على غير تماس مع المواطن. لم نسمع أن أحدهم أبدى ملاحظة حين استولت نقاباتهم ومنظماتهم ونواديهم على شاطئ النيل وصادراته وحرمت باقى المواطنين من الاستمتاع به، ولسنا ضد استمتاع فئة أو جماعة بحياتها. واعتراضنا هو على احتكار قلة لمطلق المتعة، وفرض الحرمان الكامل على المجموع . لا يختلف بعضهم عن رجال الأعمال الذين استولوا على السواحل والأراضى وحولوها إلى منتجعات، وحرموا الفقير من مسكن بسيط يعيش فيه مع أسرته. لم نعلم أن منهم من زار عشوائية من العشوائيات، أو اطلع على مآسى سكان المقابر، أو التفت إلى ظاهرة أطفال الشوارع . وباستثناء محمد غنيم مؤسس مركز الكلى المتميز، ومجدى يعقوب الذى يؤسس لمركز قلب فى أسوان . لا نجد صاحب باع فى العمل الاجتماعى أو الأهلي، أو من يسعى للتخفيف من معاناة المحتاجين والمعدمين . بعيدا عن لغة الإكراميات أو ' البقشيش '. وعلى المستوى النظرى فإن الوحيد - على حد علمى - الذى أعد خطة لتغيير وجه مصر. هو شيخ الجيولوجيين رشدى سعيد فى مشروعه 'مصر المستقبل ' من أجل خروج المصريين إلى الصحراء بعيدا عن الوادي. مادة هذا التغيير: الرمال والغاز والماء . لم يلفت نظر أى منهم عدد ضحايا ذلك النعش الطائر المسمى ميكروباص، أو تلك المصيبة الجديدة المعروفة بالتك تك. أصبح المواطن تحت رحمة أصحاب وسائقى هذه الكائنات الحديدية المتوحشة والمنفلتة . وما بقى من مواصلات عامة فهى الأقذر والأقل أمانا فى العالم، ومن يرغب فى التأكد عليه استخدم محطات وقطارات السكك الحديدية فى أى مكان من البلاد، ومترو الأنفاق فى القاهرة الكبرى . و من بين الأسماء المتداولة يأتى عمرو موسى. تجده مختلفا . له وجهان متعاكسان، كل منهما فى مواجهة الآخر. الوجه الأول برتوكولى إعلامى تغطى فيه قوة الضوء على مساحات العتمة، والآخر خاص مغلق. قضت فيه العتمة على منافذ الضوء تقريبا . وفى محاولة للتقريب أشير إلى أن المخضرمين من المثقفين العرب اطلعوا على أو سمعوا عن كتاب المفكر السعودى عبد الله القصيمي، رحمه الله . وكان بعنوان ' العرب ظاهرة صوتية '. رأى فيه الكاتب الراحل أن العرب اكتفوا بالكلام عن الفعل . ولم يكن يقصد المواطنين العرب بالمعنى العام. كان مقصده نخبهم ومسؤوليهم وأصحاب القرار منهم. هم فى نظره غير أكفاء ومعوقون، عقليا وذهنيا . لكنهم يملأون الصورة ويحتلون صدارة المشهد السياسى والثقافي، ويمتلكون ناصية الحكم والقرار، ونتج عن ذلك الوضع إهمال النابهين والمبدعين وذوى الكفاءة الإدارية والمهنية والعلمية والثقافية . كانت تلك حيثيات حكمه على الأمة العربية بأنها ظاهرة صوتية، تسمع لها صوتا ولا ترى فيها فعلا . ويجسد عمرو موسى هذه الظاهرة تجسيدا كاملا، واختزلها فى شخصه اختزالا غير مسبوق . وتستمد هذه الظاهرة الصوتية قيمتها من مجال حركتها فى نظام عربى رسمي. أبكم وأصم وأعمى، فالناطق وسط البكم سلطان، ومن يسمع وسط الصم فلتة، ومن يرى من بين العميان أعجوبة . وشعبية موسى مصدرها لسانه وحضوره وليس موقفه والتزامه، وهذا أهله ليكون ناطقا بلسان نظام عربى تم إلحاقه بالمشروع الصهيو غربى . المساحة لا تكفى لرصد كل أبعاد الظاهرة . لذا نعرض للقطات سريعة عنها. فعمرو موسى منذ أن كان مندوبا لمصر فى الأممالمتحدة ساهم مساهمة فعالة فى تأهيل الدبلوماسية المصرية لتكون أكثر قربا وهى تتعامل مع الدوائر الصهيونية، واستكمل هذه المهمة بعدما تقلد منصب وزارة الخارجية . فى عصره حوصر الخط الوطني، وخضع العمل الدبلوماسى لما يعرف بالخط المهني. ففتحت أبواب الوزارة للتطبيع والمطبعين . واستمر على نفس الخطى حين ترك الوزارة إلى منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية. دفع بالنظام الرسمى العربى ليكون أكثر التصاقا بالدولة الصهيونية وأكثر فعالية فى تعريب التطبيع. وإذا ألقينا موضوع التطبيع جانيا، برصد أحوال السياسة العربية فى أعقاب غزو العراق . يسجل على عمرو موسى أنه أول من اعترف بالاحتلال، حين اعتمد مندوب مجلس الحكم، المعين من قبل قيادة الغزو، ممثلا للعراق فى مجلس الجامعة . وإذا ما انتقلنا إلى محرقة غزة نهاية العام الماضى وبداية العام الحالي. ناور عمرو موسى وداور ليحول دون اكتمال نصاب مؤتمر القمة الطارئ فى الدوحة ليجنب معسكر الاعتدال، ومعه واشنطن ولندن وباريس وبرلين وروما وتل أبيب، يجنب كل هؤلاء الحرج، وانعقد المؤتمر بمن حضر، ومن يومها اتسع الخرق على الر ا تق، وهو مستمر فى الاتساع حتى هذه اللحظة . ومن توابع محرقة غزة ذلك المشهد الذى نقلته فضائيات العالم عن تقاعس عمرو موسى عن اللحاق برجب الطيب أردوغان بمجرد أن أومأ إليه بان كى مون الأمين العام للأمم المتحدة. استمر جالسا ولم يخرج كما كان متوقعا احتجاجا على إساءات بيريز، بذرائع واهية. ولسنا وحدنا من يرى فى عمرو موسى هذا الوجه الآخر. فها هو كاتب كبير مثل فهمى هويدى يرى نفس الشيء تقريبا، فى تعليق له على تصريحات موسى فى أهرام 12/ 8/ 2009 ، عن القضية الفلسطينية. تصريحات موسى التى أغاظت هويدى تتلخص بأنه لم يشر بكلمة إلى الانسحاب من الأراضى العربية المحتلة، ولا إلى الحصار الذى تفرضه الدولة الصهيونية على غزة . وجعل وقف الاستيطان الموضوع الأساسى وليس إنهاء الاحتلال، ورأى أن موسى تنازل بذلك عن فكرة تفكيك المستوطنات، مع وجود قرار محكمة العدل الدولية ونصوص القانون الدولى التى تنص على بطلان إجراءات تغيير الأوضاع الجغرافية للأراضى المحتلة . بجانب صمته عن شرط الوفاء بالالتزامات التى نصت عليه مبادرة بيروت العربية، وهى الانسحاب الكامل من الأراضى المحتلة عام 67 ومن الجولان والأراضى اللبنانية . و يقول ان موسى حين أراد أن يبدو حازما قال: إن العرب لن يقدموا شيئا دون الوقف الكامل للاستيطان، فى تراجع واضح عن شرط الانسحاب الكامل الذى نصت عليه المبادرة ، ويصف كلامه عن الالتزامات المتقابلة كطريق لإحلال السلام بأنه يقترب من موقف الدولة الصهيونية، الذى يدعى أنها لن تعطى إلا بقدر ما تأخذ. المنطق الذى يساوى بين الجانى والمجنى عليه، والقاتل والقتيل، على حد قول هويدي. . ومطالبته الدولة الصهيونية إعلان موقف من الدولة الفلسطينية خلا من الإشارة إلى حقوق وحدود تلك الدولة، التى تريدها تل أبيب منزوعة السلاح ومشلولة الحركة، وضمن حدود مؤقتة، وضنّ على فلسطين بذكر كلمة القدس ( حتى الشرقية منها ) كعاصمة للدولة، واكتفى بالحديث عن الاعتراف بالعاصمة 'المستقبلية ' فى تجهيل غير مبرر، يمثل تراجعا جديدا عن الموقف العربى المتعارف عليه . وانتهى غيظ هويدي، معتبرا أن موسى قدم استقالته مما أسماه ' المكانة التى حفرها فى ضمير الأمة ، وآثر أن يعبر عن وهن حكوماتها، متشبثا بموقفه فى واجهة النظام العربى المتهالك' . موسى ترك بصمات سيئة على القضية الفلسطينية، وعلى الموقف من احتلال العراق، وغطى على التواطؤ ضد غزة. لم يترك تلك البصمات على تلك القضايا فحسب إنما ترك بصمات أخرى لها نفس التأثير السلبى على العمل العربى المشترك فى خارج الوطن العربي. وهذا موضوع نتناوله الاسبوع القادم إن شاء الله.