بكينا طويلا في تلك الليالي من عمر الثورة المصرية, بكينا بحرقة كما لم نفعل من قبل نحن السعوديين والخليجيين وأهل الجزيرة العربية والشوام والسودانيين والمغاربة, أما الآن فلا دموع ولا بكاء, لقد حان موسم الأمة, ورغم المخاوف الكبيرة علي مصر وثورتها, فإن عقارب الساعة لا تعود الي الوراء. لم تكن ليالي قط, بل ثمانية عشر حلما مصريا إنها المرة الأولي التي يجتمع فيها هذا العدد من البشر في ميدان واحد, فلم يكن المصريون وحدهم في ساحة التحرير بين الخامس والعشرين من يناير وحتي الثاني عشر من فبراير, كانت عيون العرب وقلوبهم وأرواحهم معلقة هناك, الغربي الحر الديمقراطي والغربي المستبد المستعمر كانا أيضا, وكانت عين الله ترعي مصر وتحميها لم تكن الطائرات التي حلقت فوق سماء ميدان التحرير لإخافه المتظاهرين وحدها. أرواح شهداء مصر في فجر التاريخ كانت تحلق أيضا, وكان خالد سعيد بروحه الطاهرة المترفعة عن سواءاتنا الأرضية وشفافيته المطلقة وجسده المستعصي علي القاتل يحلق عاليا, كلما رأته طائرة حربية شاحت بوجهها عنه, كلما رفع ضابط مصري رأسه الي السماء رآه كانت دموعه دماؤه تزرع النخوة في قلب جيش مصر فانحاز كما يجب له أن يفعل. لاتليق مفردة جيش مصر الا بانحياز الدبابة المصرية للميدان وللانسان لايمكن للقيافة العسكرية والتهميش الطويل والاتفاقيات التي كبلت جيش العرب أن تقف في وجه ضابط مصري نبيل ويوم أراد الله اختبار مصر وأهلها كان يوم الثورة الحقيقية عقد شعب مصر وشبابها الأحرار قمتهم علي أرض التحرير, وكان خالد سعيد يبارك الميدان بدمه, فأزهرت مصر جديدة حرة كريمة كما يليق بها. أول مايفعله زائر مثلي لمصر الثورة وبعد غياب طويل التوجه لميدان التحرير مباشرة, وعند أول تجمع شبابي يتوضأ المرء ثم يقبل الأرض ويصلي ركعتين. في هذه الأمتار المربعة من جسد مصر الكبير أنجز الأهم في تاريخ الانسان العربي المعاصر. أطلق الميدان طاقات المصريين والعرب الكامنة رفضهم واحتجاجهم وكرامتهم ومدنيتهم الراقية, تطلعهم نحو المستقبل, كسر حاجز الخوف الساكن فينا منذ عقود. وحدثت القطيعة التامة بيننا وبين الظلم. هنا قبلة لكل عربي ينشد الحرية والمستقبل وهنا أيضا دفن الاستبداد العربي الي الأبد. صحيح ان القطار يكاد ينطلق وأمامه مشوار طويل, لكن اللحظة التاريخية تمت بعد أن وجهت سيدي بوزيد نداء عربيا إنسانيا استثنائيا تلقفته مصر وعممته دستورا عربيا جديدا وملزما للأمة من المحيط الي الخليج لا أحد بعد اليوم علي الاطلاق يستطيع الوقوف في طريقه. ماجاء في الأعلي ليس كلام انشاء أو غراميات في حب الثورة, بل تأكيد علي أن هذه الثورات تنطلق في تحريرها للشعوب من وجدان الناس, لاشيء يقف أمام ترسانة أمنية مدججة بالسلاح تعمل بلا ضوابط وبلا أخلاق وبلا حرمة إلا الوجدان, اطلاق قوي النفس الكامنة من الباطن وذلك التحفيز الهائل من شأنه إزالة كل عقبة تقف أمام الأفراد والجماعات متي كانت محقة في مطالبها, لكن هذا وحده لايبني أوطانا جديدة قائمة علي العدالة والمساواة والنهضة, لايستطيع ميدان التحرير أن ينجز أكثر من اسقاط الأنظمة القمعية وتمهيد الطريق لأنظمة حديثة ديمقراطية, لانريد لهذه الساحة المباركة أن تتحول لضريح جديد نتبرك به نرمي عقولنا ونوقف نشاطاتنا وقلقنا ونقدنا ونتوجه ل سيدي الميدان نتبرك به ونقبل أحجاره حجرا حجرا! تقف أمام مصر تحديات كبيرة, وهناك عدة أمور بحاجة للتغيير ومواكبة النقلة التاريخية التي سجلها ميدان التحرير, بقايا النظام السابق من السياسيين وكبار الموظفين والمثقفين إضافة لقوي المعارضة التقليدية بين إسلاميين وغيرهم والقوي الجديدة من الشباب الذين شكلوا قوة الدفع الكبيرة للتغيير بناء علي ماسبقهم من جهود يحتاجون ان يتكيفوا مع عهد مابعد الثورة, فمصر اليوم بين من يسعي بكل ما أوتي من قوة للانتقام من كل مامضي وتعويض كل مافاته في عقود بأيام وأشهر معدودة, وبين من يعمل جاهدا علي اعادة الأوضاع لما كانت عليه قبل الخامس والعشرين من يناير, ولو بأشكال جديدة ومغايرة لذلك العهد الغابر وهذا مايتجلي بالصراع المحتدم علي المسائل السياسية وما يتفرع عنها من تشكيل الأحزاب والانتخابات وأولوية الدستور الجديد علي الرئاسة أو الانتخابات التشريعية, ولا أحد ينفي أهمية الاطار العام وهوية الدولة الحديثة وتأثير ذلك علي مايليه من عمل لكن ثمة أمور أخري تحتل الأولوية ولايجب إغفالها علي الإطلاق. عاني الاقتصاد المصري طويلا بسبب الفساد وسوء الادارة, وتحملت مصر اليوم وزر تلك العقود الطويلة من الإهمال, التعليم الجامعي في مصر تراجع بشكل ملحوظ رغم ريادة مصر في هذا الجانب, إعلام مصر بعد أن كان الصوت الذي لايعلي عليه أصبح في ذيل القائمة. الزراعة وما أصابها من تدمير بسبب جشع رجال الأعمال وتحالفهم مع النظام السابق وبيعهم الأراضي وإهمال الفلاح المصري. مياه مصر الملوثة في جانب منها والمعرضة للتهديد من دول المصب في جانب آخر. قضايا الحياة اليومية من أداء الأجهزة الحكومية وكفاءة الموظفين وسد حاجات الناس ومطالبهم. هذه القضايا يجب أن تكون حاضرة بقوة في أجندات الثائرين من الشباب والقوي السياسية القديمة والجديدة, وليس من المنطقي أن يعمل الجميع في السياسة ويتصارعوا حولها, تستطيع فئات عريضة من الشباب والمهتمين أن تشكل قوي ضاغطة باتجاه الأحزاب السياسية وأجهزة الدولة الرئيسية وأن تضع لها أجندات واضحة ومحددة تلامس حياة المصري وتظهر قدرة مصر الثورة علي معالجة مشاكلها الظاهرة فالمجتمع المدني ومؤسساته غير السياسية تؤدي دورا رئيسيا في المجتمعات المتحضرة لايؤديه الحزب السياسي أو الادارة الحكومية. لقد بكينا طويلا في تلك الليالي من عمر الثورة المصرية, بكينا بحرقة كما لم نفعل من قبل نحن السعوديين والخليجيين وأهل الجزيرة العربية والشوام والسودانيين والمغاربة, أما الآن فلا دموع ولا بكاء, لقد حان موسم الأمة, ورغم المخاوف الكبيرة علي مصر وثورتها, فإن عقارب الساعة لا تعود الي الوراء والدماء التي بذلها المصريون نظير حريتهم وكرامتهم لاتذهب هدرا ورغم الضغوط الكبيرة من داخل البلاد وخارجها لإبقاء مصر علي ماهي عليه وإجهاض التغيير الحاصل الا ان سواعد المصريين السمراء وقلوبهم النقية وآمالهم وأحلامهم الكبيرة ستقف لكل ذلك بالمرصاد وقريبا ستأخذنا مصر معها الي حيث يجب أن نكون جميعا. عاشت الثورة مذيع سعودي يعمل بقتاةالجزيرة الفضائية اشتهر بحواراته مع المفكر الفلسطيني عزمي بشارة خلال أحداث الثورتين المصرية والتونسية