لن تُصنَّف إيطاليا مستقبلا ربما ضمن الديمقراطيات الغربية التى تعتبر حرية الصحافة من الأمور المسلم بها. فيوم السبت، خرج نحو 300 ألف إيطالى إلى الشوارع احتجاجاً على الهجمات التى شنها رئيس الوزراء سيلفيو برلسكونى مؤخراً ضد وسائل الإعلام؛ حيث تتهم جمعية الصحافيين الوطنية الحكومةَ ب»إضعاف» جهود انتقاد الحكومة وإخبار الجمهور. وقد اندلعت الاحتجاجات إثر دعوتين قضائيتين رفعهما برلسكونى مؤخراً ضد صحف إيطالية كتبت حول مغامراته الغرامية خارج العلاقة الزوجية؛ حيث يطالب رئيسُ الوزراء الإيطالى فى إحداها «ليونيتا»، وهى صحيفة يسارية تبيع نحو 60 ألف نسخة، بتعويض قدره 2.6 مليون يورو بدعوى تشويه سمعته. وفى هذا السياق، يقول جيان ماريا بيلو، نائب رئيس التحرير: «إذا خسرنا القضية، فإننا لن نستطيع الدفع»، مضيفاً: «إنهم يريدون إفلاسنا». ويرى بيلو أن الأوضاع تصب فى صالح برلسكونى بعد أن مرر قانوناً يمنحه الحصانة ضد الدعاوى القضائية من النوع الذى يرفعه اليوم إذ يقول: «إن الأمر شبيه بتحدى شخص لخوض معركة شرف فى وقت ترتدى فيه أنت درعاً واقياً بينما منافسك عار»، وأن برلسكونى «يستطيع مقاضاتنا لأنه شعر بالإهانة بسبب المقالات التى نكتبها، لكننا لا نستطيع أن نقاضيه حتى إذا سبنا وشتمنا». ومعروف عن برلسكونى نعته للصحافيين غير اللطيفين معه ب«المجرمين»، كما سبق أن قال ذات مرة إن وسائل الإعلام «تغص بالنصابين»، وذلك رغم أنه يهيمن على معظم صحافة بلاده؛ حيث تمتلك عائلته واحدة من المجلتين الإخباريتين الكبيرتين فى إيطاليا، وصحيفتين يوميتين، وثلاث من القنوات التلفزيونية الرئيسية السبع. ومن بين القنوات التلفزيونية الأربع المتبقية، هناك ثلاث قنوات تديرها الحكومة التى يقودها برلسكوني. ورغم أن التلفزيون الحكومى مازال يذيع برامج منتقدة للحكومة، فثمة خطوات تتخذ من أجل كبحها والحد من استقلاليتها. وكمثال على ذلك، فتحت الحكومة مؤخراً تحقيقاً فى البرنامج الحوارى «أنو زيرو» الذى يبث على قناة «راى 2» المملوكة للدولة. وذلك بعد أن قام البرنامج خلال الأسبوع الماضى باستجواب مومس قالت إنها أقامت علاقة مع برلسكوني. ضمن تطورات هذه القضية، أقيل مؤخراً ماركو ترافاليو، الذى يشترك فى تقديم البرنامج والمعروف بصراحته وانتقاده لبرلسكوني، رغم أن ذلك حدث قبل إذاعة الحوار مع المومس. كما يقول صحافيون فى برامج أخرى إنهم يتعرضون لضغوط لكبح انتقاداتهم لبرلسكونى مع تهديدات بسحب التأمين الحكومي. وفى هذا الإطار تقول ميلينا جابانيلي، رئيسة تحرير «ريبورت»، وهو برنامج تحقيقات صحفية: «إننا نتعرض لضغوط قوية جداً... إن المساهم الرئيسي، وزير المالية، لا يحبنا، بل إنه قاضانا ذات مرة». وحسب جابانيلي، فإن الضغوط الرامية إلى كبح الانتقادات ضد الحكومة ازدادت قوة منذ أن وصل برلسكونى إلى السلطة، إذ تقول: «إن أى ديمقراطية ناضجة ما كانت لتسمح لرجل يملك أكبر شبكة تلفزيونية (خاصة) بالسيطرة على التلفزيون الحكومى أيضاً». كما تشتكى جابانيلى من أن قوانين القذف والتشهير الإيطالية الصارمة تجعل من السهل مقاضاة الصحافة، مما يؤدى إلى محاكمات باهظة يمكن أن تستمر إلى غاية عقد من الزمن، وتقول: «لا غرو فى أن صحافة التحقيقات فى هذا البلد تُخنق». غير أن أقلية من الصحافيين الإيطاليين يرون أنه لا يوجد شيء خاص بشأن علاقة برلسكونى المتشنجة مع الصحافة، حيث يقول باولو كورسيني، الذى يرأس «لالتيرناتيفا»، وهى جناح محافظ من منظمة الصحفيين رفضت دعم الاحتجاجات: «لا أرى فائدة من الاحتجاج ضد رئيس الوزراء هذا لأنه قاضى بعض الصحف، والحال أن كل من سبقوه فى منصب رئاسة الوزراء قاموا بالشيء نفسه»، مضيفاً: «عندما قاضى رئيسا الوزراء التقدميان السابقان ماسيمو داليما ورومانو برودى الصحف التى كانت تنتقدهما، لم يقل أحد أى شيء. إنه من النفاق أن يحتج اليسار الآن باسم حرية التعبير». ويقول كورسينى أيضا: «حرى بى أن أقلق بشأن حقيقة أننا مازلنا نفتقر إلى معادل للتعديل الأول للدستور الأميركي». ويذكر هنا أن الدستور الإيطالى يكفل حرية التعبير، لكن فى حدود يمكن أن يحددها القضاء. غير أن ديفيد بيدوسا، وهو مؤرخ بمعهد فيلترينيلي، يرى أن الصحافة المستقلة ليست لديها جذور قوية فى إيطاليا، إذ يقول: «تاريخياً، يعد مفهوم الصحافة المستقلة هنا فى إيطاليا، غائباً تقريباً». ثم يضيف: «كل المعطيات تشير إلى أن المرء ما زال يستطيع قول ونشر ما يريد فى إيطاليا... ومع ذلك، فالمناخ العام فاسد. فبرلسكونى لا يتسامح مع أبسط الانتقادات، والغريب فى الأمر أنه مصر على الاستمرار فى الزعم بأنه ضحية وسائل الإعلام الشريرة والقوية». ومن جهة أخرى، هناك الصحافيون اليساريون الذين هم فى الغالب مناوئون للحكومة سلفاً، وهو أمر غير نزيه ويمثل نوعاً من التعصب. ويقول بيدوسا: «أسمع الكثيرين يتحدثون عن حرية الصحافة واستقلاليتها، لكنى لست واثقاً من أن معظم الناس يريدونها، كما أنه ليست لدى فكرة واضحة عما يعنيه ذلك بالضبط».