أحدث كتاب الشيخ محمد الغزالي- السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث الذي صدر في أواخر الثمانينات ضجة واسعة بين التيارات الفكرية علي وجه العموم و التيار الإسلامي علي وجه الخصوص لما للقضايا التي أثارها من اهتمام علي الساحة الفكرية و الدينية؛ و أهم هذه القضايا من هم أولى بالنظر في العلوم الإسلامية و فروعها المختلفة و استنباط أحكامها؟ هل هم أهل الفقه لما لهم من تبحر في كافة العلوم الشرعية و الإنسانية و بما لديهم من قدرات نافذة و بصيرة ثاقبة؛ أم أهل الحديث لما لهم من نظر في صحة و سند الحديث النبوي و درجاته من حيث القوة و الضعف؛ و عدل الرواة؛ و ثارت أيامها التيارات السلفية؛ و صنف الرجل من أعداد أهل السنة. الأستاذ الدكتورعبادة كحيلة أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب جامعة القاهرة والمتخصص في الدراسات الأندلسية وصاحب المعارك الفكرية ضد الفساد الإداري داخل الجامعة وذو المواقف الصلبة و أبرزها موقفه المساند و الداعم لمحنة الدكتور رءوف عباس حامد بعد إصداره مذكراته". صدر مركز عين للدراسات و البحوث الإنسانية و الاجتماعية كتاب "عهد عمر.. قراءة جديدة"، ورغم صغر حجم الدراسة التي تبلغ 80 صفحة من القطع المتوسط إلا أنها جاءت في غاية الدقة و الوضوح و الدلالة لمعالجة عهد عمر، وهو ما يطلق عليه "العهدة العمرية أو الشروط العمرية"، وهو موضوع يتسع لعمل المؤرخ والفقيه معاً؛ لذلك كان اجتهاد الرجل اجتهاداً محموداً يفتح المجال لإعادة النظر في قضية العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين؛ علاقة دار الإسلام بأهل الذمة من اليهود و النصارى أو ما اصطلاح بعض الفقهاء علي إدخالهم في أهل الذمة مثل المجوس (عبدة النار). تنقسم الدراسة إلي أحد عشر قسماً: يتناول القسم الأول: تعريف بالوثيقة؛ وأين النسخ المخطوطة منها سواء الذي تم طبعه أو المخطوطة التي لم تطبع حتى الآن، وتاريخ تواجدها سواء في دير سانت كاترين بشبه جزيرة سيناء أو الموجود بدار الكتب المصرية؛ ثم يناقش مدي صحة الوثيقة (العهدة العمرية) و موقف الباحثين منها سواء العرب المسلمين أو المستشرقين الذين في الغالب يقفون منها متباينة ما بين القبول و الرفض مثل"ولفنسون" و "لويس شيخون" و "جورجي زيدان" امام كبار الفقهاء المسلمين مثل الحنبلي ابو يعلي (س 451ه) و أبي النجار (س643ه) ة ابي كثير (س774ه)و ابن القيم (س751ه) و ابن تيمية (س728ه). كذلك أسماء العهدة غير المشهورة والتي أطلقت عليها قبل العهدة النبوية؛ العهدة الموحدية. وفي القسم الثاني من الكتاب يرصد الباحث النصوص التي وردت في كتب الفقه و التاريخ والأدب و التي اقتبست من العهدة العمرية، فوصل بها إلى ما يقرب من 19 كتاباً؛ و قام المؤلف بترتيبهم حسب وفاة صاحب كل مصنف. ويتحدث في القسم الثالث عن اهتمام المؤرخين والمحدثين- سواء كانوا عرباً أو عجماً؛ بهذه الوثيقة (العهدة) و كيف ناقشها كل منهم علي حدة؛ مشيرا إلى أن أبرزهم المستشرق بيلان m.belin و ترتون a.s.tritton. و كذلك د/سيدة إسماعيل كاشف؛ و فليب حتي و جورجي زيدان؛ ما بين قبول بعهدهم ونسبها إلي سيدنا عمر بن الخطاب و من يري أنها منحولة عليه . ثم يناقش د/عبادة في القسم الرابع السند ويدخل في الموضوع مباشرتاً حيث يؤكد في مدخلها: "نزعم بداءة- أن "عهد عمر" لم يصدر عن عمر" ولا في عهد عمر ونبدأ بتحري إسنادا هذا العهد ثم بورد أربع روايات بشكل مفصل ليصل إلي نتيجة مفادها أنه من حيث السند" يتضح لنا أن المسانيد الأربعة تشوبها شوائب؛ و نعلم أن الإسناد له مكانة خاصة عند الفقهاء ووثاقته من وثاقة المتن" ويرصد الباحث في القسم الخامس أسباب و تفصيل من يتصل إليه سند الأربعة روايات وهو الراوي عبد الرحمن بن غنم الأشعري الراوي الأصلي لهذه الأعمدة و كاتبه في معظم الروايات؛ و الذي يصل إلي نتيجة مفادها " ترجع انه ربما يكون الأمر قد اختلط علي أجيال من المؤرخين و الفقهاء بين عبد الرحمن بن غنم الأشعري (س78ه) و بين .. بن غنم الفهري (س20ه). ثم يوضع في القسم السادس أن متن العهدة به ما يقرب من ثمانية تناقضات واضحة في صلب متن الرواية و منها علي سبيل المثال حيث نجده يقول : "نجد أن المغلوبين شرطوا علي أنفسهم؛ و هو ما يتعارض مع منطق العهود-أية عهود- فالشرط يضعه في العادة الغالب و يلتزم به المغلوب عن كراهة او رضي. وكذلك تناقض ظاهر أيضا "هاتان الكلمتان زنانير(جمع زنارة) و قلاية (أو قلية) و هما كلمتان أعجميتان عربتا في مرحلة لاحقة بعد أن اختلطت العرب بالأعاجم؛ ولا نشاهدها في النصوص المعاصرة وبينهما بالطبع القرآن الكريم والسنة الصحيحة". و هكذا نجده يعدد هذه التناقضات داخل المتن. ثم يعقد في القسم السابع مقارنة مفصلة بين (عهد عمر) و بين العهود التي تعود إلي المرحلة ذاتها - مرحلة النبوة و الخلافة الراشدة – و تجده مفارقا لهذه العهود من جوانب شتي عددها في ثلاثة جوانب ثم يختم هذا القسم بقوله : ومن الطريف أننا لا نجد من ( عهد عمر) خبراً عن جزية سوى في صور أربع بين سبع وعشرين صورة؛ في حين أنه في العهود التي عقدها المسلمون مع أهل البلاد المفتوحة فإن الجزية تذكر بنحو أو آخر؛ بل يتعدد مقدارها في بعض الأحيان. ويدلل المؤلف أيضا في القسم الثامن على أن العهدة العمرية غير موجودة أيضا في كتابات كبار المؤرخين المسلمين أمثال الطبري (ت 310ه) و الواقدي (ت207ه) و الأزدي (ت231ه) والبلاذري (ت279ه) و أيضاً لا نجدها في سيرة عمر لابن الجوزي (س597ه)، إلا أن الأخطر في طرح د.عبادة أنه ذهب إلى أن (عهد سيدنا عمر) صار تكأة لبعض القيود (أو المظالم) – علي حد قوله – لأهل الذمة؛ ولا نجد تنويها إليه في واقعة خطيرة جرت بالأندلسي في سنة 519/1125 نقض أهل الذمة خلالها عقد الذمة. ويناقش القسم التاسع النتيجة التي خلص إليها وهي استحالة نسب "عهد سيدنا عمر" إليه؛ لما لها من قيود تتنافي و تتناقض مع ما نعرفه عن هذا الحكم العظيم الذي كان العدل و الرحمة أهم صفاته و ضرب المثل به في العدل؛ كما ضرب المثل به في الرحمة؛ و كان أظهر الصحابة في استعمال الرأي؛ و روي عنه الشيء الكثير في هذا الخصوص. ويقول: ومع أن عصر عمر كان عصرا مفتوحا؛ أو إنه كان عصر جهاد في سبيل الله؛ إلا أنه كان في الوقت نفسه عصر تسامح مع غير المسلمين؛ وكان المسلمون يعتبرون الجزية التي يجمعونها من أهل الذمة مقابلا "لحمايتهم؛ لهذا فإنهم قبيل معركة اليرموك ردوا إلى أهل حمص ما سبق أن أخذوه منهم؛ مما جعل هؤلاء يقولون: " لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم و الغشم؛ ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم". و في القسم العاشر يوجه سؤالاً هاما للغاية: من المسئول إذن عن عهد عمر؟! وتأتي الإجابة في منتهي الدهشة وغير متوقعة للقارئ المدقق؛ فيقول: "في تقديرنا إن المسئولية نجدها عند الفقهاء.." ولكنه مع ذلك لم يجب عن السؤال: لماذا الفقهاء تحديداً....لأنه لو حمل الفقهاء انتحال الحديث بهذه الدقة سنداً ومتناً؛ لأصبح فقهاء هذا العصر تحديداً متهمون جميعا بأنهم تقوّلوا علي مجتهد عظيم مثل الصحابي/ سيدنا عمر ابن الخطاب لأنه من المعروف عند الأصوليين أن قول الصحابي معتبر؛ وناقش بعض الأصوليين اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة معينة؛ وعدم ترجيح الفقهاء والأصوليين لقول صحابي واحد علي الآخر؛ فكيف يكون هؤلاء الفقهاء العظام في موضوع .. مثل هذه؛ إلا أنه ارجع هذا الأمر إلي اختلاف الفقهاء أحيانا فيما كانوا يتوصلون إليه من نتائج؛ لكن يبعد بالأئمة عنهم باعتبار أنهم في الأصل مجتهدون. ثم يناقش ما أورده العلامة الفقهية "ابن القيم" بطريقة علمية محايدة إذ يحفظ للرجل قدره واجتهاده و في نفس الوقت يرد ما يره قد شابه الصواب الضعف إذ يقول "الحقيقة أن ابن القيم- مع إجلالنا له – خلط بين أمرين: بين عهد عمر المزعوم و بين عهد الذي صلي الله عليه وسلم لأهل نجران؛ و تجديد أبي بكر لهذا العهد؛ ثم تجديد عمرو له بعد هجرتهم للعراق؛ و الذي قاله علي رضي الله عنه ينصرف إلي تجديد عمر عهد النبي ثم أبي بكر لنصارى نجران ولا ينصرف إلي (عهد سيدنا عمر) و يؤكد في القسم الحادي عشر بما لا يدع مجالاً للشك بعد طول مناقشة أن هذا (العهد) منتحل؛ ولا صله له سيدنا بعمر ولا بعهد سيدنا عمر (فالعهد) في سنده مضطرب؛ و به رجال ضعفاء أو مجاهيل. كما أن "العهد) في خطابه مضطرب؛ فكيف يصدر عن مغلوب؛ بل كيف يشرط مغلوب علي غالب. (و العهد) في مضمونه يفارق العهود المعاصرة من غير جهة؛ ولا يرد عند مؤرخين كبار كالطبري، ولا عند مؤرخين متقدمين مثل البلاذري ، ولا نجد في سيرة سيدنا عمر رضي الله عنه؛ ولا في عصره ما يشير ببعض ما ورد فيه. ورغماً عن قدم العهد(بعهد سيدنا عمر) فإن أول تطبيق واضح له يعود إلي سنة (700ه).