أمر غريب ذلك الترحيب الذي قابل به البعض في مصر تصريحات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية التي طالب فيها مصر بفتح العملية السياسية لزيادة المشاركين فيها. ومشاركة لاعبين آخرين في النظام السياسي! أمر غريب أن يرحب البعض في مصر بالدعم الأمريكي لهم والمساندة الأمريكية في مطالبهم الخاصة بتعديل الدستور لتذليل الصعاب أمام المستقلين للمشاركة في انتخابات الرئاسة وتقليل مدة رئاسة الجمهورية علي فترتين.. رئاسيتين فقط!!.. وألا يروا في ذلك نوعاً من التدخل في الشئون الداخلية المصرية؟! فالمتابع لمجريات الأحداث السياسية. وليس دارس العلوم السياسية. يعرف أن الولاياتالمتحدة. رغم كل شعارات الديمقراطية والمحافظة علي حقوق الإنسان. لم تصنع يوماً ديمقراطية لبلد ما. ولم تدفع إصلاحاً سياسياً في أي مكان. ولم تقف بإخلاص مع حقوق الإنسان. بل العكس تماماً هو الذي حدث.. انتصرت الولاياتالمتحدة للطُغاة. وساندت حكومات ديكتاتورية عديدة. وغضت الطرف كثيراً عن انتهاك حقوق الإنسان في أماكن شتي امتدت من فلسطين إلي جوانتانامو في كوبا. نعم الولاياتالمتحدة ترفع خفاقة أعلام الحريات والمحافظة علي حقوق الإنسان. وتتشدق بالديمقراطية ليل نهار. ونصبت لنفسها قَيِّماً ومحافظاً علي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. ولكنها في الواقع العملي منذ أن برزت كقوة عالمية كبري بعد الحرب العالمية الثانية. وحتي بعد أن صارت القوة الكونية الأعظم والوحيدة في عالمنا. وهي لا تخلص لهذه الشعارات وهذه المثُل الرفيعة الأخلاقية الجميلة.. لقد رفعتها إداراتها المختلفة المتعاقبة سواء الديمقراطية أو الجمهورية لتكسب تأييد الأمريكيين لمغامرات تدخلها في الشئون الداخلية للشعوب الأخري. وهذا ما اعترف به في صراحة ووضوح بيل كريستول أحد مفكري ومنظري المحافظين الجدد حينما قال: "لقد نجح المحافظون الجدد في ترويج أفكارهم لأنهم مسوا أعماق الفكر والوجدان الأمريكي.. فالأمريكان لديهم إحساس هائل بأنهم أصحاب رسالة وأن أمريكا يجب أن تقدم شيئاً أكثر رفعة وسمواً ورُقياً من الحياة الرغدة والنجاح المادي الملموس".. وهكذا وجد المحافظون الجدد في الديمقراطية ضالتهم كحلم أخلاقي جميل يخدعون به الأمريكيين قبل العرب ليظفروا بتأييدهم علي شن سلسلة من الحروب الوقائية أو المغامرات العسكرية مثلما حدث في أفغانستان ثم العراق. الديمقراطية هي برفان جميل يخفي به الأمريكيون الوجه القبيح لتدخلهم في شئون الغير. خاصة إذا اقترن هذا التدخل بعنف أو عمل عسكري. قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وانهياره كان أول عمل تقوم به المخابرات المركزية الأمريكية بعد إنشائها هو تزوير الانتخابات البرلمانية الإيطالية لتمنع ثوار الحزب الشيوعي وتُمكن الحزب الديمقراطي المسيحي من الفوز.. وفي سبيل ذلك أنفقت الكثير من الأموال وتحالفت مع المافيا الإيطالية.. ثم كررت ذات المحاولة في الانتخابات الإيطالية التالية. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانهياره لعبت المخابرات المركزية الأمريكية دوراً واسع النطاق لتغيير النظم السياسية في عدد من بلدان أوروبا الشرقية من خلال دعم ومساندة عدد من النخب المعارضة فيها. ولم يكن الهدف هو صناعة ديمقراطية تتمتع بها شعوب أوروبا الشرقية. وإنما صناعة نظم سياسية موالية لها في إطار الخطط الأمريكية الرامية لبسط النفوذ الأمريكي في شتي أنحاء العالم ومحاصرة روسيا حتي لا تفيق من صدمة انهيار الاتحاد السوفييتي وتستعيد مرة أخري نفوذها ومكانتها الدولية. وهكذا.. لم تقدم أمريكا يوماً دعماً سياسياً أو غير معنوي أو مالي بريء لأحد. ولم تقدم مساندة بغير غرض لأحد.. ولكنها كانت في حاجة لإخفاء هذا الغرض تحت الشعارات الجميلة البراقة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسي ونظافة ونزاهة الانتخابات. وغيرها من تلك الشعارات التي اعتدنا أن نسمعها كثيراً من المسئولين الأمريكيين. سواء كان هؤلاء ينتمون للحزب الجمهوري أو ينتمون للحزب الديمقراطي لافرق. إن أضخم عملية تزوير للانتخابات تمت في أفغانستان التي يوجد فيها الآن نحو مائة ألف جندي أمريكي يحتلون مساحات شتي ومتفرقة فيها.. فكيف نثق في شاهدي الزور. وكيف نتصور أنهم يتمنون الخير الديمقراطي لنا؟! إذا كان الأمريكيون مخلصين فعلاً للشعارات الديمقراطية التي يرفعونها. كان الأولي بهم احترام هذه الشعارات قبل مطالبة غيرهم باحترامها.. كان الأولي بهم ألا يسمحوا بتزوير الانتخابات في بلد يحتلونه بالقوة المسلحة.. أو علي الأقل كان عليهم ألا يعترفوا بنتائج هذه الانتخابات وبالرئيس الذي جاءت به. ويجبرونه علي ترك الرئاسة وإعادة الانتخابات بدونه.. لكنهم لم يفعلوا ذلك. بل إنهم يحاولون الآن استرضائه بعد أن قام بابتزازهم بتقديم العروض لطالبان وتوجيه الدعوة للرئيس الإيراني نجاد لزيارة كابول. وهي الزيارة التي عاير بها نجاد أوباما لأنها تمت علناً ولم تتم سراً مثل زيارة الرئيس الأمريكي للعاصمة الأفغانية! يا سادة.. أمريكا لم ولن تصنع الديمقراطية لأحد.. جُلّ ما تصنعه للآخرين هي التبعية وفرض الهيمنة عليهم. وأحياناً احتلال أراضيهم.. فكيف ترحبون بدعم أمريكي لكم من أجل إصلاح سياسي أو تغيير عدد من مواد الدستور؟!