يؤمن العالم كله الآن بتطبيق نظرية الخريطة المعرفية، وهي نظرية تفيد ممارسة عملية التفكير في موضوع مشكل، بل وإعادة التفكير مرتين أو أكثر في الموضوع الواحد. ومما لا شك فيه أن المجتمعات الإنسانية المعاصرة لم تعد تسير في طريقها نحو التقدم والتطور بصورة تلقائية عفوية ، بل تحاول أن تدرس مراحلها ومواقفها السابقة لتقف على حاضرها ، وتستشرف مستقبلها وتحدياتها القادمة. ومن منطلق ما سبق حرصت بعض التيارات السياسية في مصر وعلى رأسها الحزب الوطني الديموقراطي على سبيل المثال في مراجعة مراحله السابقة ، وعمل على تجديد أفكاره وسياساته ، وهو ما نتج عنه رفع شعار فكر جديد، واستحداث أمانة السياسات. ولم يكن الحزب الوطني وحده رائداً في هذا، فالمتابع للشئون السياسية الإسلامية في مصر يدرك ما قامت به جماعة الجهاد الإسلامية ، وهي الجماعة الأشهر سياسياً في مصر منذ بداية الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات من مراجعة لأفكارها ولأيديولوجياتها الفكرية والدينية. وقد قامت الجماعة تلك في هذا السياق وهي تراجع أفكارها بإصدار عدة كتب تتضمن مراجعات طويلة لأيديولوجياتها الدينية، وكما يذكر السيد يس حول هذه الإصدارات أنها لم تحظ باهتمام كاف من الأوساط السياسية والثقافية في مصر. أما بالنسبة للجماعة المحظورة المسماة بجماعة الإخوان المسلمين، رغم كوني مسلماً وموحداً بالله، ومؤمناً برسوله (صلى الله عليه وسلم)، يعني أنهم ليسوا المتحدثين وحدهم باسم الإسلام، المهم أنهم لم يفكروا للحظة في المراجعة الفقهية لأدائها في المرحلة السابقة، وإن كانوا قد فعلوا هذا داخلياً، فمن الأحرى إعلان ذلك إن كانوا يريدون حقاً أن يعيشوا معنا على أرض المحروسة. ولا أدعي ظناً أنهم بعيدون تماماً عن النقد الذاتي، والتقييم الداخلي، بخلاف ما يحدث الآن داخل أروقة الجماعة من مساجلات بين كل تيار على أحقيته في خلافة مهدي عاكف المرشد العام الحالي للجماعة. وإن كان تاريخ مصر السياسي سجل ما أصدره المستشار حسن الهضيبي المرشد السابق للجماعة من بيان بعنوان " دعاة لا قضاة " وهو يعتبر نوعاً من التقييم الذاتي لأداء جماعة الإخوان المسلمون. وتجنب جماعة الإخوان المسلمون لعملية النقد الذاتي والتقييم الداخلي يسهم في ترسيخ فكرة الجمود وانعدام التواصل بينها وبين المجتمع الذي أصبح يرى في الإخوان المسلمين جسداً صامتاً لا يتحرك ، بل هو جسد غير قادر على الحركة، بعد ما تصور المجتمع أن تلك الجماعة ستساعد في الحراك السياسي والاجتماعي. وجديد بالذكر أن المرشد العام الحالي السيد مهدي عاكف أعلن هذا الأسبوع أكثر من مرة أنه باقٍ في منصبه حتى موعد انتخابات المحظورة، وكأن أحد أعضائها أجبره على التنحي ، أو أنه يطمع في تمديد فترة رئاسته للجماعة، ويبدو أنه أصيب بفوبيا ترك المنصب. ومثل هذه التصريحات خير شاهد ودليل على ما أصاب الجماعة من تحول داخلي خطير. وفي إطلالة سريعة على ما فعله المنتمون للجماعات الإسلامية وبخاصة جماعة الجهاد، نرى أنهم أرادوا الاندماج السريع في المجتمع وخير دليل واضح على ذلك ما قاموا به من مراجعات فقهية لأفكارها. ومن الدهشة التي تعتريني وأنا أنظر لمساجلات المحظورة الحالية ما اعتراها من وجود تيارات مختلفة داخلها، فهناك تيار الإصلاح الذي يرى ضرورة الانخراط في المجتمع والعمل العام، وهناك تيار متشدد يرى أنه من الضرورة استكمال العمل بالمرجعية الحالية للجماعة، وهؤلاء بدأوا في استبعاد عناصر إصلاحية من مكتب شورى الجماعة. وقد يظن البعض أن أعضاء مكتب شورى الجماعة متماسكون ولا يشوبهم أية اختلافات أو اعتراضات فكرية أو منهجية، لكن ما يعلنه هؤلاء الأعضاء من تصريحات صحفية تؤكد أنهم يسيرون نحو هاوية، وهو ما تتمناه السلطة في مصر، حيث إن المحظورة تشكل صداعاً مزمناً برأسها، والواقع الحالي يؤكد أن الجماعة بدأت تختلف في أهدافها ووسائلها، وطريقة استقطاب أعضاء جدد لهيكل الجماعة. وإن كانت الجماعة قديماً تلعب على مشاعر المصريين تجاه مشاكلهم وهمومهم كالبطالة والفقر وقصور الخدمات الصحية والتعليمية، فإن الصورة الحالية لمصر توضح أن المجتمع نفسه قادر على حراكه دون الاحتماء بمظلة معينة وهو ما لم تأخذه الجماعة المحظورة مأخذ الجد والاهتمام. بالإضافة إلى ما تقوم به الجمعيات الأهلية من دعم ومساندة لشرائح مختلفة من المجتمع. وبرغم كم الانتقادات التي جاءتني عبر بريدي الإليكتروني من انتقادي للمحظورة في مقالي السابق شتاء المحظورة، إلا أنني على توافق داخلي مع نفسي بأن الجماعة لم تقدم جديداً رغم تمتعها بآليات تخطيطية وتنظيمية متميزة، إلا أنها في الوقت ذاته لم أرها مندمجة مع أحداث مصر بصورة فعالة نستطيع أن نرى نتائجها. وبرغم من أنني أشعر بتوجس من نتاجات فكر المحظورة إلا أنه من منطلق كونها واحدة من أبرز التيارات الدينية السياسية في مصر فلابد من التفكير جيداً في إعادة تقييم ومراجعة أفكارها إن أرادوا بحق خدمة هذا الوطن، وأظن أنهم لا ولن يقدموا على مثل هذه الخطوة لما ينتظرهم من سباق انتخابي داخلي وخارجي ، أقصد انتخابات البرلمان المصري. دكتور بليغ حمدي إسماعيل دكتوراه الفلسفة في التربية