في بعض أفلام العنف - غير المحتملة - أضع يدي فوق الأذن، حتى أُحجب الصوت تماماً. لماذا أفعل ذلك؟ لأنه لو استمر العنف الصوتي بالفيلم، هنا، لا يكفي إشاحة الناظرين، لأن الصوت سيواصل العمل على المُخيلة. استعدت تلك الملاحظة على نفسي وآخرين، بينما كنت أُعيد تأمل تفاصيل مشهد مقتل والدة البطل بفيلم »المليونير المتشرد« أو »مليونير العشوائيات« slumdog millionaire، ففي المُشاهدة الأولى لم أنتبه لوجود المؤثرات الصوتية والموسيقي، لأنهما كانتا ملتحمتان مع الصور كالكائن الحي المتماسك. كانتا ممتزجتين بتلاحم متين كما تفعل شجرة »أم الفواكه« - البا ُشن فروت - في أسلوب هارموني بديع مع الأداء التمثيلي، لدرجة كان يصعب معها التمييز بين الموسيقى وبين المؤثرات من ناحية، مثلما كان يصعب الفصل بينهما وبين اللقطات المتوالية المُكونة لسردية بصرية مشهدية سيتحول معها مصير البطل للأبد، إذ سيفقد أمه ويصير مشرداً هو وأخيه. التأثير الأسطوري للصوت بالسينما كنت غارقة في مضمون المشهد ومحتواه من آثار العنف الطائفي المفاجئ الذي انفجر كالشلال على محيط شعبي في مومباي حيث كانت النساء تغسلن ثيابهن، والأبناء يلعبون ويلهون في المياه. حالة من اللهو والمرح والاحتفال بالحياة تنقلب في لحظة، وأقل من طرفة عين، إلى ساحة معركة يختلط فيها الحابل بالنابل. أدركت أنني بفضل المؤثرات الصوتية كنت أشعر، في لحظة ما، كأنني في وضعية الأم وهى تنظر لطفليها بين الآخرين في المسبح، وتارة أخرى أشعر بنفسي وكأنني أحد الطفلين عندما يهبط إلى الماء قبل أن يصعد مجددا. ثم بفعل وضعية زاوية الكاميرا والصوت مجددا ُعدت لتقمص شخصية الأم تماماً بينما كانت تتلقى الضربات بآلة حادة على وجهها، لدرجة أنني تألمت، وأغمضت عيوني من قسوة وعنفوان الاعتداء. الخداع الجميل إن الصوت ُيحفز الخيال ويجعلنا على تواصل قوي مع مالا نراه، من خلال المؤثرات الصوتية يقوم المخرج بوصف كثير من المشاعر، بل، ربما يلعب دوراً أخطر من ذلك، أو بالأحري، وفق ما يطرحه مهندس الصوت المبدع الحائز على أوسكار رسول بوكاتي - ،Resul Pookutty - في محاضرة عن المؤثرات الصوتية والموسيقى قائلاً: »إننا نستخدم الصوت لتغيير وجهة نظر المشاهدين، وتبديل آراءهم. يحاول المخرج والمونتير إبراز الأصوات وإظهارها بشكل قوى مؤثر من أجل السيطرة علي الجمهور، إنه أسلوب ينطوي على غش، لكنه أمر ضروري من أجل الصدق الفني. ونحن نفعل ذلك من خلال خمسة أشياء موجودة بالمحيط: الحوار، والأداء التمثيلي، المؤثرات الصوتية، الموسيقى والأغاني.« أخطاء إبراهيم العريس وقتله أجيالاً من النقاد انتشال التميمي حين كان المدير الفني لمهرجان الجونة نجح في إقناع بوكاتي أن يحكي ويشرح بالتجربة العملية لجمهوره من عشاق الفن السابع في مصر، فكان المقتطف السابق بمقالي عن رسول بوكاتي ضمن محاضرة استمرت أكثر من ساعة بمهرجان الجونة السينمائي الممتد بين 19 - 27 سبتمبر 2019. وهى المحاضرة التي حضرتها بنفسي آنذاك ودونت ملاحظاتها التي أثرت في بشكل شخصي وكان عنوانها »الإبداع في مجال المؤثرات الصوتية بالسينما« والتي جعلتها جزءاً مهما من الفصل الثالث لمشروع كتاب سينمائى جديد أرسلته لإحدى دور النشر قبل فترة. أقول: كان لمهرجان الجونة السبق في الوطن العربي في التركيز على أهمية شريط الصوت بالفيلم السينمائى وذلك بفضل رجل المهرجانات الناجحة القدير انتشال التميمي الذي أدعو له بالشفاء، وإن كان هناك محاضرات للعظيم نور الشريف عن أهمية الصوت. ما الذي أعادني لتلك المحاضرة المنعقدة بالجونة في 2019؟ إنها الأخطاء التي ذكرها بيقين - يكاد يقترب من القسم - الناقد السينمائي اللبناني ابراهيم العريس إذا قال إنها المرة الأولي عربيا ودوليا التي ُينظم فيها مؤتمر للحديث عن الصوت السينمائى، في ندوة عقدت له بمؤتمر النقد السينمائى في مدينة الرياض 6- 10 نوفمبر الجاري، وأدارها بمهارة وحنكة تشي بثقافة سينمائية جيدة الناقد السعودي فراس الماضي، وذلك ضمن قسم »في صحبة النقاد« في إطار برنامج اليوم الثاني من فعاليات النسخة الثانية من مؤتمر النقد السينمائي في مدينة الرياض، والمنعقدة خلال الفترة 6- 10 من شهر نوفمبر الجاري. جاء المؤتمر تحت عنوان "الصوت في السينما"، حيث يركز على إثراء مجال النقد السينمائي وطنيّا ويتيح الفرصة لشبابه - بالانغماس - والتفاعل الإيجابي مع تجارب وخبرات عربية ودوليّة عبر استعراض نطاق واسع من مفاهيمه وتطبيقاته، وهو جهد محمود للمنظمين، رغم أنه ليس كل المتحدثين الأجانب على نفس المستوى، هناك تفاوت. لكن، المهم أن مؤتمر النقد السينمائى بالرياض والذي تنظمه هئية الأفلام السعودية لا يحتاج إلي أن ننسب إليه ريادة في غير محلها، والدليل على ذلك ثقافة كل المواهب السعودية في شتى المجالات التي التقيتها، وتواضعهم في التعامل، فالحقيقة التي لمستها أن المنظمين يسعون من وراء هذه الفعالية إلى التعمق، وإلي خلق تفاعل بين العالمين: صناع الأفلام ونقادها، إلي تبادل الخبرات، ولم يطلب أحدهم من إبراهيم العريس أن ينسب إليهم سبق وريادة في تنظيم ندوة ثقافية سينمائية، لكن خطأ العريس ناجم من كونه أنه لم يعد ُيطالع أشيا ًء كثيرة، فهو يقرأ ويشاهد في بيته باعترافه هو نفسه، إنه لا يحضر ندوات أو مؤتمرات إلا نادراً. لم يعد يطيق مشاهدة الأفلام بدور العرض، وهذا باعترافه أيضاً على الملأ، وهذا سر دهشة الكثيرين لأنه يظل جالساً في بهو أي فندق يتسامر مع ٌصناع الأفلام ويتحدث لوسائل الإعلام عن سينما لم يعد يتابع أغلبها. للحق، وحتى نكون موضوعيين، إبراهيم العريس ناقد سينمائي وقامة ثقافية كبيرة في مجاله، وأنا شخصياً كتبت عن عدد من كتبه وناقشتها.. لأنني أُكن له التقدير لزخمه في الكتابة، وثقافته الموسوعية بجوانب الفنون، ولدوره في تحليل الجوانب المجتمعية للأفلام. قتل أجيال من النقاد على الملأ الجزء الأهم في كتب إبراهيم العريس يتمحور حول الأسئلة التي يطرحها، والتي لا يجيب عليها في كثير من الأحيان، ليس فقط لأن الإجابة عليها تحتاج باحث دؤوب مجتهد، لكن الأهم بسبب مراوغة العريس نفسه في ألا يقدم أجوبة حقيقية، كتابه عن شاهين نموذجاً. صحيح أيضاً أن للعريس أياد بيضاء على النقد وعلى جيل من صناع الأفلام، وأنا شخصياً وقف إلي جانبي أكثر من مرة، ودافع عن موقفي عندما اختلفت مع إدارة مهرجان القاهرة السينمائي خصوصاً وقت أزمة »آخر أيام المدينة«. كان موقفه شجعاً. لكنه يرتكب أخطاء أحياناً تُغضبني كباحثة، أولا هو ذاته - أثناء تلك الندوة - يعترف أنه لم يعد يقرأ ما ٌيكتب من نقد على الساحة النقدية، وأنا أتساءل: كيف لا تقرأ ثم تُصدر حكما بأنه لم يعد هناك نقاد سينما بعد رحيل النقاد في جيلك، وكأن النقد السينمائي توقف عندهم، وهذه مصيبة كبرى لو كان حكمه صحيحاً، لأن الحياة لا تتوقف أبداً عند أحد. المثير للدهشة أمرين: أنه في الكواليس يحكي العريس بحماس عن شخصيات وأفراد يعتبرهم نقادا جيدين وباحثين جيدين، لكنه على الملأ وفي العلن يقتلنا جميعاً - نحن جيل الألفية الثانية - وربما جيلين آخرين، وذلك رغم أنه يستعين بكتابات بعضنا عند تأليف كتبه. أتذكر واقعة حكى لي عنها صديق لبناني أنه شاهد أحد كتبي بمكتبة إبراهيم العريس فطلب منه استعارة الكتاب لكن العريس رفض.لماذا رفض؟ لأنه يخشى من ضياع الكتاب الذي ُيعد مرجعا أساسياً ومهماً في أحد فصول تاريخ السينما المصرية في علاقتها مع الوطن العربي وفرنسا. إضافة إلى ما سبق، من يراجع كتابه الأحدث عن »السينما والمجتمع« سيجد أنه استعان بكتابات - أنا ومجموعة من الزملاء والزميلات النقاد - ضمن متن الكتاب أكثر من مرة، وذلك دون توثيق أي مرجع بشكل علمي، فقط يكتفي بمجرد إشارة في مقدمة الكتاب، وهو أمر خطير لأنه ٌيهيل الثرى على جهودنا كباحثين ونقاد سينما من أجيال لاحقة عليه، وشخصياً أعتبر ذلك أسلوب غير مستقيم وليس فقط مفتقد للمنهج العلمي. ما سبق يجعلني أتساءل مجددا: لماذا يفعل ذلك؟ هل لأنه لا يرى ناقدا غيره؟ هل لأنه يخشى أن يؤشر على ناقد/ ناقدة ويعترف بأهميتهما علناً فيأخذان مكانته؟ لا أحد يستطيع أن يأخذ مكانة العريس بسبب شمولية ثقافته الاستثنائية أساساً. وفي تقديري أن الحكم المنصف بوجود تيار نقدي ُيضيف للإنسان ولا يأخذ منه. البعض ُيبرر ما فعله العريس »بالمناكفة«، لأن الساحة النقدية أصبحت ُمباحة لعديمي المواهب، وفي رأيي أن هذا ليس مبرراً، هذا عذر أقبح من ذنب، لأنه لو صح هذا الأمر فمن واجب إبراهيم العريس أن ُينصف أصحاب المواهب في مواجهة دخلاء المهنة الذين صاروا يعتمدون على فكرة أن تُرضي الشلة وتُسبح بحمد قادتها. لكنها مرة آخرى العلاقة الملتبسة/ ليس فقط بين الناقد وصانع الفيلم، لكنها العلاقة الملتبسة بين أجيال من النقاد وبعضهم البعض، وكان الله بالسر عليم.