إعلان النتيجة النهائية لجولة الإعادة للمرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب    الحكومة تكشف حقيقة انتشار جنيهات ذهبية مغشوشة في الأسواق    الداخلية تضبط ميكروباص يقل ناخبين مقابل سلع تموينية    تجارة عين شمس تحتضن قمة أكاديمية حول الذكاء الاصطناعي    حبس عاطل بتهمة التحرش بفنانة شهيرة أثناء سيرها بالشارع في النزهة    أول ظهور لمعلم واقعة المقص بالإسماعيلية    حملات لتحصين الكلاب الحرة ضد مرض السعار بمحافظة الدقهلية    عاجل- مجلس الوزراء يطمئن المواطنين: السوق المصري آمن من تداول جنيهات ذهبية مغشوشة    محافظ كفر الشيخ: الانتهاء من تدريب وفد من 10 دول أفريقية على تقنيات تحسين تقاوى الأرز    «المشاط» تبحث مع بنك الاستثمار الأوروبي نتائج زيارته لمصر    تسليم 5 أجهزة تعويضية وكراسي متحركة للمرضى غير القادرين بسوهاج    الرئيس السيسي وملك البحرين يؤكدان ضرورة بدء عملية إعادة إعمار قطاع غزة    الأمم المتحدة تدعو للانتقال سريعا للمرحلة الثانية من اتفاق غزة    خبير أرصاد: البنية التحتية لقطاع غزة معدومة    تطورات الوضع في غزة تتصدر مباحيات الرئيس السيسي وملك البحرين    مواعيد مباريات مصر في أمم أفريقيا 2025    يزن النعيمات صفقة الأهلي المحتملة في الميركاتو الشتوي    ضبط شخص بحوزته كروت دعائية وأموال لشراء أصوات الناخبين في الأقصر    حالة الطقس اليوم: الأرصاد تكشف فرص سقوط الأمطار ودرجات الحرارة حتى نهاية اليوم    القبض على مدرب كرة قدم بالمنصورة يعتدى على الأطفال جنسيا ويصورهم    حادث مأساوي على طريق الإسماعيلية طريق القاهرة الصحراوي..وفاه شابين وإصابة ثالث في انقلاب سيارة ملاكي    مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يعلن موعد دورته السابعة والأربعين    الفنانة اللبنانية لورا خباز تتعرض لحادث سير، وهذه لحظة نقلها للمستشفى (فيديو)    مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يعلن موعد دورته ال47    مقترح إنشاء "مدينة المستشفيات والمعاهد التعليمية" على طاولة رئيس الوزراء    الضباب الكثيف يلغي عددا من الرحلات الجوية إلى مطار حلب بشمال سوريا    الرئيس السيسي وملك البحرين: القضية الفلسطينية ستظل في صدارة الاهتمام العربي والدولي    ضبط محطة وقود بمركز منفلوط لتجميع أكثر من 8 أطنان سولار دون وجه حق    الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن فوز مصطفى البنا وحسام خليل بالدائرة الثانية بأطسا    بعد 7 أيام بحث.. لحظة اصطياد «تمساح الزوامل» بالشرقية    المشدد 7 سنوات لرئيس حي شرق الإسكندرية السابق في قضية رشوة    بروتوكول تعاون بين «القابضة للصوامع» و«الوكالة الإيطالية»    تقرير - قبل ربع النهائي.. السعودية تتفوق تاريخيا على فلسطين في كأس العرب    قائمة تونس - بن رمضان والجزيري ومعلول على رأس اختيارات الطرابلسي في كأس إفريقيا    الليلة.. قناة الوثائقية تعرض فيلم محفوظ وهي    هدى المفتي ضيفة برنامج آبلة فاهيتا.. السبت المقبل    حكم كتابة الأب ممتلكاته لبناته فقط خلال حياته    منشور مثير من نجل سائق محمد صبحي بعد انفعال الفنان على والده    رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لمشروع تطوير مدينة النيل الطبية    الصحة العالمية: ارتفاع حالات الأنفلونزا بالعالم لكن لم نصل بعد لمرحلة الوباء    نائب محافظ الغربية يتفقد القافلة التنموية بتفهنا العزب    صحيفة.. 24 ساعة تحسم مستقبل صلاح مع ليفربول    الخارجية السورية: إلغاء قانون قيصر يمثل انتصارا    مباحثات مصرية - يونانية لتنفيذ برامج سياحية مشتركة    ضربات أمنية لضبط الإتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي    53 مترشحًا يتنافسون على 3 مقاعد فردية فى دوائر أسوان المعاد الاقتراع بها    سباليتي: أداء يوفنتوس أمام بافوس كان محرجا في الشوط الأول    رئيس هيئة الاستثمار يشارك في احتفالية شركة «قرة إنرجي» بمناسبة مرور 25 عامًا على تأسيسها    مؤسسة هولندية تتبرع بأجهزة ومعدات قيمتها 200 مليون جنيه لدعم مستشفى شفاء الأطفال بسوهاج    تقييم مرموش أمام ريال مدريد من الصحف الإنجليزية    «الوطنية للانتخابات» تعلن تخصيص الخط الساخن 19826 لتلقي الشكاوى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 11-12-2025 في محافظة الأقصر    الدفاع المدني بغزة: تلقينا 2500 مناشدة من نازحين غمرت الأمطار خيامهم    كأس العرب| طموحات فلسطين تصطدم برغبة السعودية في ربع النهائي    دعاء الفجر| (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)    توقيت أذان الفجر اليوم الخميس 11ديسمبر 2025.. ودعاء مأثور يُقال بعد الانتهاء من الصلاة    بانا مشتاق: إبراهيم عبد المجيد كاتب مثقف ومشتبك مع قضايا الناس    الأوقاف تختتم فعاليات المسابقة العالمية الثانية والثلاثين للقرآن من مسجد مصر الكبير بالعاصمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إلى "أطفال العتمة".. سامحوني!
نشر في مصراوي يوم 04 - 04 - 2024

جاءني صوتها أخيراً، بعد أكثر من أربعة أشهر من الانقطاع، عابراً أميالاً من العذابات وروائح الدم والبارود، والأجساد التي اقتاتت عليها الكلاب والقطط لشهور، وجثث البيوت الإسمنتية التي تراكمت فوق بعضها في كل مكان، وسط خذلان ذوي القربى والإنسانية بأسرها: يومها مضى على اندلاع الحرب على غزة أكثر من مائة وعشرين يوماً. كانت المرة الأولى التي أسمع فيها صوت أختي، من خلال ربط هاتفها بشبكة "واي فاي"، في المدرسة التي نزحت إليها هي وزوجها وأطفالهم الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والأربع سنوات.
شمال قطاع غزة، حيثُ يقيمون الآن، قد أخذ نصيبه الأكثر قسوة من مأساتنا الفلسطينية الحالية. سألتها عن أسعار المواد الغذائية، فأجابتني: "أسعارها عندنا متذبذبة من يوم لآخر، وأحياناً في اليوم ذاته، لكنها عموماً غالية بشكل لا يمكنك تخيله. كيلو الدقيق ب120 شيكل (حوالي 30 يورو). كيلو العدس المجروش 70 شيكل (حوالي 18 يورو). الخضروات مثل البصل غالية جداً، ويبلغ سعره 50 شيكل (حوالي 14 يورو).. ". واصلتْ هي سرد قائمة السلع الغذائية وأسعارها الصادمة، وأنا عاجز عن التعقيب على كلامها. المشكلة أن أهل قطاع غزة لا يستطيعون شراء هذه السلع بتلك الأسعار بتاتاً. زوج أختي مثلاً مهندس عاطل عن العمل منذ بداية الحرب، وبالطبع لم يتلق أي راتب أو مبالغ مالية، مثل معظم الموظفين في قطاع غزة، إضافة غلى أن بيته قد تعرض للتدمير، مثل 85% من منازل غزة. بحسبة بسيطة وجدتُ أن أسرتهم بحاجة إلى ما يقرب من 800 يورو شهرياً على الأقل للإيفاء بأبسط احتياجاتهم، وأن يبقوا أحياء، ما لم تشطبهم قذيفة أو رصاصة إسرائيلية من سجل الأحياء.
كانتْ تصلنا أنباء مروعة عن المجاعة التي يتعرض لها أهل قطاع غزة هناك، في ظل غلاء الأسعار وشح السلع، وأن هنالك من مات بالفعل بسبب الجفاف والجوع، وهو أمر لم نسمع به أبداً من قبل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. بعدها، بدأتْ تصلنا صور مروعةٌ لضحايا المجاعة بغزة، فيما كانتْ آلاف الشاحنات المتخمة بالمساعدات الإنسانية تنتظر دورها في الدخول إلى قطاع غزة، في ظل تعمد إسرائيلي واضح للجميع لإبطاء دخول تلك المساعدات. كانتْ وسيلة قتل جديدة لا تختلف عن وسائل القتل الممنهج الأخرى، لكنها أكثر إيلاماً بكثير: من سيموت بالقصف الصاروخي، سيموت ميتتة سريعة، لكن من سيتم تجويعهم حتى الموت سيتمنون الموت ألف مرة كل يوم، وهم يرون أطفالهم يموتون أمامهم.
"ما العمل؟؟ كيف يمكنني مساعدتهم؟؟" ظل هذا السؤال يؤرقني. كنتُ أبحثُ عن وسيلة لمساندتهم بأي طريقة. حتى لو أرسلتُ لهم مائة يورو. هو مبلغ ضئيل للغاية، لكنه المتاح بالنسبة لشخص لا يعمل مثلي. سألتُ أكثر من شخص، حتى لو تمت التحويلات بشكلٍ غير مباشر، لكن الجواب كان واحداً: هذا مستحيل. إيصال الأموال إلى قطاع غزة أمر صعب للغاية. الأبواب موصدة في وجهي، وصوتُ أختي وأطفالها لا يفارقني، والتجويع مستمر دون توقف.
هؤلاء النازحون الذين يواجهون خطر الموت جوعاً كل يوم لا تتقوف المجازر ضدهم. يرافقهم الموت كل يوم ويأخذ فريسته منهم بمختلف ذخائر الحرب: بالصواريخ وقذائف الدبابات والمدفعية والرصاص بأنواعه. قابلتُ أحد الفلسطينيين في أحد المحلات التجارية بمدينة "أنتويرب" البلجيكية. أنا لا أعرفهُ من قبل وهو لا يعرفني. لكن موضوع الحرب الذي تم النقاش فيه، جعلني أسأله عن مكان عائلته، لأجد أن زوجته وأولاده بنفس المدرسة التي نزحت إليها أختي وزوجها وأولادها. كانتْ صدفة غريبة!
قال لي: "أنا لم أر زوجتي وأبنائي منذ عامين ونصف. وصلتني رسالة من غزة تقول بأن ابني "أنس" قد تم قتله في المدرسة، في مجزرة ارتكتبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي هناك. لحظة من فضلك..". أخرج هاتفه المحمول، ليريني صورة طفل أبيض البشرة، نحيل القوام، مغمض العينين، وقد احتواه كفن صبغ بياضه لون الدم: "كان عُمْر ابني اثنتي عشرة سنة فقط. بقيتُ بعدها في حالة اكتئاب لثلاثة أشهر، لم أخرج خلالها من بيتي إلا للضرورة. هذه صورتي قبل استشهاد ابني وبعدها. هل تستطيع ملاحظة الفرق؟؟ ".
تأملتُ صورته الشخصية قبل الحرب على غزة، التي ظهرت على شاشة هاتفه المحمول، ووجهه هو. يا إلهي! لقد كبر هذا الرجل عشر سنوات على الأقل في غضون أشهر! لقد كان هذا الرجل مثالاً حياً للألم المجسد السائر على قدمين. قال لي الرجل بنبرة فرحٍ غريبة لم أنسها أبداً: "ابني الشهيد محظوظ والحمد لله! إذ أننا تمكنا من دفنه في قبر له وحده!! ". أدركتُ السبب لاحقاً: في هذه الأيام، أصبحتْ معرفة هوية صاحب الجثة، وأن يدفن بطريقة لائقة، في مكانٍ معلوم يخصه فقط، حظاً عظيماً! حتى كتابة هذه السطور، مجهولو الجثث والمصير صاروا بالآلاف، ضمن أربعين ألفاً، ما بين شهيد ومفقود، ثلاثة عشر ألفاً منهم من الأطفال الذين لن يكبروا أبداً.
عدتُ إلى بيتي، لأجد "فيسبوك" يقترح علي صديقاً جديداً. لقد كان هو! دخلتُ إلى حسابه الشخصي، لأرى ضمن منشوراته هناك وجه ابنه "أنس" واضحاً، بملامحه الطفولية، وشعره البني الفاتح، وبشرته الناصعة، وعينيه الخضراوين، مع كلمات النعي المعتادة. ثلاثة عشر ألف طفل، أغلبهم لم يكونوا محظوظين، وكثير منهم قتلوا أشلاء لم يتمكن أحد من التعرف عليها، أو تركت جثثهم في العراء كي تتغذى عليها الكلاب والقطط الضالة، أو دفنتْ بشكلٍ جماعي، محتضنة جثث أهلها، أو تُرِكَتْ كي تتعفن تحت ركام منازلهم. وهنالك مليون طفل آخرون، ينتظرون المصير ذاته، ويموتون ببطء، بفعل الجوع والبرد ونقص الأدوية والرعاية الصحية.
منذ بداية الحرب على غزة، قل رئيس وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي، "بنيامين نتنياهو" إن الحرب هي حرب بين "أبناء النور وأبناء الظلام"، جاعلاً من مليون طفلٍ فلسطيني هدفاً للقتل المباشر والتجويع وتحويلهم إلى "أبناء للعتمة"، بلا مدارس ولا عيادات صحية ولا جامعات ولا مستقبل، وسبعة عشر ألفاً منهم أصبحوا أيتاماً، والآلاف منهم معاقين. عدد الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا، خلال خمسة أشهر تقريباً من الحرب على غزة، يساوي عدد جميع الأطفال القتلى في جميع أنحاء العالم، خلال جميع الصراعات والحروب، على مدى السنوات الأربع السابقة، بحسب شهادة المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، "فيليب لازاريني".
كنتُ أتابع حساب سيدة إسرائيلية، من الداعين للسلام وإنهاء الحرب على غزة، نشرتْ صورة طفلٍ فلسطيني غزي، تحول إلى هيكل عظمي، بسبب المجاعة التي فرضها الاحتلال على أبناء قطاع غزة. صدمني تعليق لسيدة إسرائيلية أخرى، لا زلتُ أذكرُ تعليقها: "يتحمل ذنبه قادة حركة "حماس"، الذين تسببوا له ولغيره من المدنيين بهذه الحرب"!
كنتُ قد قابلتُ وزيرة بلجيكية، قبل أيام، في لقاء بعيد عن عدسات الإعلام، وذَكَرَتْ أن "حماس" قد أعطتْ الحجة للإسرائيليين أن يفعلوا ما فعلوه بالمدنيين الفلسطينيين. رددتُ على حجتها بالقول: " لقد خرج من حي "مولنبيك" في "بروكسل" العديد من الإرهابيين والمتطرفين (منهم من قاموا بتفجيرات في "باريس"، و"بروكسل"). كم قصف قمتم به ضد حي "مولنبيك"؟؟ كم طفل وامرأة قتلتموهم في حربكم ضد هؤلاء الإرهابيين؟؟ كم منزل دمرتم؟؟ أياً كان الأمر، لا يمكن أبداً القبول باستهداف المدنيين..".
في فيلم "الطنطورة"، الذي مولته إسرائيل بنفسها، يظهر رجلٌ عجوز، كان مقاتلاً عند حدوث النكبة عام 1948، أنكر حدوث المجازر وقتها ضد المدنيين الفلسطينيين، الذين كان من بينهم أطفال، قبل أن يُسْمِعَهُ الصحفي الذي أجرى المقابلة معه اعترافات أحد زملائه بنفس كتيبته العسكرية، وكيف قتل العديد من القرويين الأبرياء بطلقة في الرأس من مسدس "باربيليوم". قال ساعتها مصدوماً: "هذا مثل ما فعله النازيون بنا بالضبط..! ". تلك الجملة التي قالها المقاتل السابق في العصابات الصهيونية لخصت كل شيء..
إلى أبناء شقيقتي "دعاء": "عبد الله" (ثلاثة عشر عاماً)، و"نور" (إحدى عشرة سنة)، و"سارة" (سبع سنوات) و"سلمى" (أربع سنوات)، وإلى مليون طفلٍ آخر من قطاع غزة، هم بقية "أبناء العتمة" من الأطفال. أرجو أن تسامحونني. إنني عديم الفائدة لكم، طالما أنكم لا زلتم في نظر العالم جزءاً من "أبناء العتمة"، وتستحقون ما جرى لكم من مجازر وقتلٍ وتجويع وحرمان من أبسط حقوق الأطفال، فقط لأنكم من "غزة"!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.