جالسا على كرسي السائق في ''التوك توك'' الجديد، ممسكا بدفة القيادة، منتظرا إيجاد زبون من هنا أو هناك كي يعود لبيته في المساء حاملا بعض المال أو من الطعام ما يكفي سد جوع أطفاله الثلاثة وزوجته. وفي المنزل كان اللقاء؛ حيث جلس ''أحمد محمد'' وزوجته ''سعاد'' وولديه، ''ياسر'' الأكبر ذو الاثني عشر عاما و''أشرقت'' ابنته الصغرى التي لم تبلغ عامها الخامس بعد، وغابت ابنته الوسطى ''أشجان'' بسبب امتحانات نصف العام التي جعلتها تعود إلى محافظتهم الأصلية ''الفيوم'' لتنهي امتحانات الصف الخامس الابتدائي. اجتمعت الأسرة على ذلك السرير الوحيد في حجرتهم التي لا تزيد مساحتها عن ثلاثة أمتار، لا تنيرها إلا إضاءة خافتة للغاية، وتكسو أرضيتها سجادة صغيرة، بينما يوجد المطبخ خارج الغرفة بسبب ضيق المساحة؛ حيث تم بناء الغرفة بداخل ''جراج'' تحرسه الأسرة وتعيش فيه بأحد العمارات بمنطقة الهرم. بدا ''أحمد'' راضيا بحاله، سعيدا بعمله الجديد كسائق ''توك توك'' بعد أن أقعدته الظروف عن عمله الأصلي ''أنا كنت بشتغل عامل بناء قبل الثورة، وكنت كويس، لحد ما اتصبت يوم 28 يناير''.. قالها ''أحمد'' ليروي تفاصيل مأساته التي لم ينساها إلى يومنا هذا. بمجرد معرفة ''أحمد'' وجود مظاهرات في يوم 25 يناير 2011 أصر على النزول '' كنت مستبيع ومعنديش شغلانة ثابتة علشان أخاف عليها، ومش عارف أحوش 2000 جنيه على بعض عشان أجيب شقة للعيال، وكان خلاص فاض بيا''. بعد مرور الثلاث أيام الأولى للثورة وتحديدا في يوم 28 يناير، اتفق ''أحمد'' مع أصدقائه على النزول بعد صلاة الجمعة ''الضرب اليوم ده كان شديد جدا و الأمن ابتدى على العصر يزيد لحد ما حاصرونا عند جامع عمر مكرم''، ثم بدأت مرحلة الرصاص الحي؛ حيث اُصيب الشخص الواقف بجانب ''أحمد'' بطلق ناري وعندما انحنى ''أحمد'' عليه ليبعده عن مرمى الضرب؛ فإذا فجأة '' لقيت كمية كهرباء عجيبة في جسمي، أتاري الشرطة ما صدقت انشغال الناس بالرصاص وقربوا مننا، وأتلم عليا عساكر أمن كتير، واحد ضربني بعصا الكهرباء في ضهري لحد ما كان هيغم عليا، والباقيين نزلوا فيا ضرب وبعدين الناس شالوا الراجل المضروب بالرصاص وأنا فضلت أزحف لحد ما لقيت ناس وصلوني البيت''. لم يتخيل ''أحمد'' وقتها أن الضرب والكهرباء سيجعلانه بعد فترة عاجزا عن مواصلة عمله، فعندما ذهب للمستشفى بعد الضرب بساعات طالبه الأطباء بعمل الأشعة اللازمة، وكانت النتيجة وجود شرخ في إحدى فقرات الظهر وتحرك فقرة أخرى من مكانها مما جعله في حاجة لعملية جراحية . ''فضلنا نلف على المستشفيات شوية، واتنقلت من الفرنساوي للمركز الطبي العالمي، عملت تحاليل هناك وبعدين اتحولت على ''معهد ناصر'' عشان أعمل العملية، وعملتها على حساب المعهد''.. هكذا روى ''أحمد'' رحلة علاجه بين المستشفيات، وكنتيجة للعملية تم تركيب مسمارين في الفقرة التي تم تكسيرها و شرخها بفعل الضرب وتركيب دعامة للفقرة التي تحركت من مكانها. ما لبث ''أحمد'' أن انتهى من العملية حتى بدأت رحلة زوجته ''سعاد'' مع الإجراءات الحكومية للحصول على معاش يضمن لهم حياة كريمة أو الحصول على تعويض من صندوق رعاية المصابين. ''لفيت في كل حتة أما أحمد كان تعبان، من الصندوق بتاع المصابين لمعهد ناصر عشان التقرير بتاع علاجه يتكتب فيه إنه مصاب ثورة، وبرضو في المعهد مكتبوش إنه مصاب ثورة وعشان كدة صندوق المصابين مرضيش ياخد الجواب ويصرف التعويض عشان مش مكتوب في تقرير المعهد إنه مصاب من الثورة فمعرفناش نجيب التعويض وبقالنا سنتين على الحال ده''.. بهذه الكلمات روت ''سعاد'' تفاصيل رحلتها للحصول على تعويض زوجها. وتواجه ''سعاد'' وزوجها العديد من الصعاب في حياتهما التي يبدو عليها الشقاء ''عشان أنا وجوزي مش بنعرف نقرأ ولا نكتب فمش عارفين نعمل حاجة أكتر من كدة، ولولا مساعدات ولاد الحلال اللي ساعدونا نجيب الأدوية بعد العملية ونخلص إجراءات معهد ناصر كان زمان أحمد راح فيها'' . عدم الاستجابة التي واجهها الزوجين منذ عملية ''أحمد'' في رمضان 2011 وحتى عدة أشهر فاتت لكي يحصلوا على التعويض جعلت اليأس يستبد بهما '' احنا خلاص تعبنا، كان نفسنا نجيب التعويض على الأقل نشتري بيه شقة لينا''. إلا أن الظروف المعيشية التي يحياها ''أحمد'' وأسرته هي ما أجبرته على التمسك بمهنة سائق ''التوك توك'' على الرغم من وجود خطر على صحته ''الدكتور آخر مرة روحت قال إني مينفعش أفضل قاعد أكتر من ساعتين لإن ده غلط على الفقرات، فعشان كدة مبقدرش اشتغل على التوك توك أكتر من خمس ساعات في اليوم ومتقطعين مش ورا بعض، ده غير المطبات اللي بتخليني أتعب أكتر في السواقة'' . العامان الماضيان في عمر أسرة ''أحمد'' على الرغم من صعوبتهما، إلا أنهما جعلا الأسرة أيضا تدرك قيمة المشاركة في الأحداث العامة؛ إذ أنهم شاركوا في الإدلاء بأصواتهم أثناء الانتخابات الرئاسية في ''الفيوم'' . ''أنا عايز البلد أحسن، عشان كدة كنت ساعات آخد مراتي والعيال و ننزل التحرير لما حاجة متعجبناش''.. قالها ''أحمد'' تعليقاً على الأوضاع السياسية الغير مستقرة التي تشهدها البلاد، مشيرا إلى أن الدستور الجديد فيه أشياء ليست جيدة وأخرى جيدة لحد كبير، كتلك المادة '' اللي قالوا فيها إنهم هيدوا معاش للناس اللي مش عارفة تشتغل''. في بداية عام جديد كانت أمنيات الأسرة الصغيرة تتنوع بين الحصول على شقة، عمل وتعليم جيد لأطفالهم؛ حيث قالت الأم '' أشجان بنتي دخلتها مدرسة في الفيوم عشان أرخص وعايشه هناك مع أهلي بيصرفوا عليها، عشان احنا مش عارفين نصرف عليها هي وإخواتها؛ ياسر لوحدة بياخد دروس في الشهر ب200 جنيه، وكان نفسنا ''أشجان'' تدخل مدرسة جنبنا هنا لأنها شاطرة، بس كل المدراس هنا مصاريفها 1000 و 2000 جنيه في السنة''. أما ''ياسر'' فكانت أمنيته للعام الجديد أكبر نسبياً من والدته '' نفسي ناخد شقة، احنا في الجراج هنا مفيش باب، وباب الأوضة مش مستحمل واتسرقنا مرة، و الأنبوبة بتاعة البوتاجاز اتسرقت مرتين قبل كده، وبقينا بنخاف نقعد لوحدينا كتير لحسن حد يدخل علينا ياخد حاجة''. بينما تمنّى الأب أن '' عايز أخف وأكمل علاجي، أنا بقالي أكتر من 3 شهور مبروحش أتابع مع الدكتور لأن الفلوس مبقتش كفاية، وبسبب إننا مخدناش التعويض بتاعي بقت الحالة أصعب بعد ما عملت العملية، لولا ولاد الحتة لموا الفلوس وجابولي ''التوك توك'' كان زمانا بنشحت، نفسنا نحس إن الثورة اللي أنا اتصبت فيها جابت نتيجة''، بينما ''أشرقت'' الصغيرة قاطعت أبيها قائلة:'' نفسي بابا يخف عشان يلعب معايا، لما باخد دواء الكحة بتاعي بقول يارب اشفي بابا''.