تتلخص مشكلة قبيلة المناصير التى تقطنُ فى ولاية نهر النيل، شمال السودان، مع الحكومة فى إنشاء سد مروى الذى غمر أراضيهم الزراعية ومساكنهم دون ان تفى الحكومة ممثلة فى إدارة السدود بالتزاماتها التي قطعتها تجاه المناصير. فبعد أكثر من خمسين عاماً يتكرر ذات المشهد المأساوى: السد العالى الذى تم إنشاؤه فى عهد الرئيس السودانى الراحل الفريق إبراهيم عبود، فى خمسينيات القرن المنصرم، أضر كثيرا بالقبائل النوبية التى كانت تقطن مدينة حلفا القديمة الغنية بالآثار التاريخية العريقة. وتم تهجير النوبيين آنذاك الى منطقة حلفاالجديدة في شرقي السودان، التي تختلف كثيرا عن بيئتهم الأصلية التى كانوا يعيشون فيها. وعملية تهجير النوبيين تعتبر خطأ فادحاً ارتكبته الحكومة بحق النوبيين والآثار السودانية العظيمة التى غمرتها مياه السد. يتكرر نفس الخطأ الفادح مرة أخرى بحق قبيلة المناصير التي تختلف عن القبائل النوبية التي تقبلت عملية التهجير ورضخت لأمر الواقع دون اعتراضات تُذكر. فهذه القبيلة الصغيرة تقيم فى منطقة صخرية قاسية، بعكس القبائل الشمالية الأخرى التى تقطن في شريط النيل. وبحسب جبريل العوض، الذي ينتمي لقبيلة المناصير، تأثر أبناء قبيلته بالظروف الطبيعية القاسية للمنطقة الصخرية التي يقيمون فيها، ويكشف العوض، فى حوار مع (دويتشه فيله) عن طبائع تميز المناصير عن غيرهم، إذ أنهم يصرون على عدم فض اعتصاماتهم والإصرار على مطالبهم حتى تحقيقها كاملة. المماطلة في تنفيذ وعود رئيس الجمهورية ويبدو أن حل الخلاف بين قبيلة المناصير والجهات الرسمية صعب، نظرا لإصرار كل طرف على موقفه. فالخلاف بين الحكومة ممثلة فى إدارة سد مروى والمناصير حول بناء السد، يتعلق بأمور أساسية. حيث يطرح المتضررون خيار توطينهم حول بحيرة السد، وهو ما صار يعرف فى الاعلام السودانى ب (الخيار المحلى)، فيما تطرح إدارة السدود خياراً آخر وهو خيار (مدينة المناصير الجديدة) التى قامت إدارة السد بتشييدها. وظل الخلاف يراوح مكانه لفترةٍ طويلة، حتى حسمه رئيس الجمهورية، عمر البشير، عند زيارته للمناصير، ووعده لهم بتنفيذ الخيار المحلى. وما فاقم الأمر وفجرَّ القضية مؤخراً هو أن إدارة السدود، تجاهلت تنفيذ أوامر وتوجيهات رئيس الجمهورية بخصوص تنفيذ الخيار المحلى لتوطين المناصير حول بحيرة السد. ويرى المحلل السياسى، التجانى النو، أن تجاهل قرارات الرئيس يقلل من هيبة الدولة ومن جدية تنفيذ قراراتها. وقال النو ل (دويتشه فيله) إن (هذه حالة غريبة وعجيبة) فى الممارسة السياسية عندما يتم التقليل من شأن القرارات الرئاسية. من جهته يقول الناطق الرسمى باسم لجنة متأثرى سد مروى (المناصير)، الرشيد الأفندى، فى حوار مع ( دويتشه فيله)، إن بداية الأزمة تعود إلى الإعتصام، فى ميدان العدالة، أمام مقر حكومة ولاية نهر النيل، في العشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر هذا العام، عندما قامت لجنة تُمثل المناصير بتسليم الحكومة مذكرة تتضمن عشرة مطالب، على رأسها تكوين مفوضية قومية لتنفيذ مطالبهم. ونفى الأفندى رفع سقف المطالب تحت أىِّ ضغوط سياسية. وبرر مطالبتهم بتكوين مفوضية قومية عوضاً عن محلية، كما اقترحت حكومة ولاية نهر النيل، بقدرة القومية على تأمين المال اللازم وتقديم العون القانونى للمتضررين. ورفض الأفندى الاتهامات بتسييس القضية المطلبية، على خلفية اجتماعهم بالقوى المعارضة، وأكد أن الاجتماع كان بغرض التضامن مع القضية وليس لأغراض سياسية. المناصير فى قلب الخرطوم راوح الخلاف بين إدارة السدود والمناصير مكانه، دون أن تظهر فى الأفق بوادر الحل. ما دفع المناصير، بحسب العوض، إلى اللجوء إلى خيار الاعتصام أمام مبنى حكومة ولاية نهر النيل منذ العشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2011. اعتصام المناصير دخل شهره الثانى ولا أمل فى حل جذرى. وبحسب شهود عيان، تحدثوا ل ( دويتشه فيله) فان المناصير أبدوا إصراراً غير مسبوق على مواصلة اعتصامهم حتى الاستجابة لمطالبهم التي يقولون إنها عادلة. وفاجأ المناصير سكان الخرطوم بمظاهراتهم في ميدان جاكسون الشهير وسط العاصمة. الأجهزة الأمنية أيضا تفاجأت واحتارت في أمر المظاهرات ولم تعرف من سيَّرها. ولدى ترديد شعارات المناصير الشهيرة حول التوطين فى الخيار المحلى، تبيَّن من يقف خلف المظاهرات المفاجئة. إزاء هذه التطورات تباينت وجهات نظر المحللين، بين من يرى أن انتقال الاحتجاجات إلى العاصمة الخرطوم، هو تطور دراماتيكى ربما يؤدى الى تطورات لاحقة قد تعصف بالنظام من أساسه، وبين من يرى أن احتجاجات المناصير محدودة وذات تأثير ضعيف على استقرار النظام. إذ يتهم رمضان الفاتح، الباحث المتابع لقضية متأثرى السدود، أحزاب المعارضة ومواطنى الخرطوم، بعدم التفاعل مع قضية المناصير. وصرح ل (دويتشه فيله) بأن قضية المناصير لم تلق الاهتمام الكافي من القوى السياسية المعارضة، ولم يتفاعل معها المواطنون، خصوصاً فى ولاية الخرطوم. وعلى هذا الأساس، يخلص الفاتح إلى أن القضية لن تطيح بالحزب الحاكم. ويكشف عن سبب آخر ربما يرجح فرضيته، إذ إلى أن غالبية المعتصمين تربطهم روابط سياسية وفكرية بالحزب الحاكم ما يقلل من احتمال التصادم والمواجهة مع الحكومة. ويرى أن انتقال الاحتجاجات إلى الخرطوم لن يشكل خطراً سياسياً على الحزب الحاكم، لأن المناصير أظهروا حرصاً شديدا على عدم تسييس قضيتهم. أما حزب المؤتمر الوطني الحاكم فيكتفي بالتعبير عن تقديره لمطالب المناصير. ويقول رئيس القطاع السياسى في الحزب، قطبى المهدى، إن مطالب المناصير أُدرجت فى الميزانية الجديدة للعام الجديد. واكتفى بالقول إن هناك خطة إسعافية لمعالجة القضية. وأكد أن القرارات الرئاسية بشأن المناصير لم يتم تجاهلها، ويعزو عدم تنفيذها لأولويات الحكومة التى إنشغلت بها فى الماضى. عثمان شنقر/ السودان