استقلت سيارتها الصغيرة ومضت في طريق لم تقصده.. عيناها مركزتان على الطريق، ولكنها لا تراه، لا تشعر حتى بوجودها فيه.. زحام وأبواق سيارات وأصوات مزعجة، وشاب يمر بدراجته..سترتطم به.. سترتطم به.. هه.. هه.. استفاقت فجأة على صياح الناس، تفادته، واختل توازنه هو على الرصيف ساقطاً، ولم تسمع من صياحه شيئاً فقط ألقت نظرة اطمئنان، ومضت.. في طريق لا تقصده ألن تتخلص من هذا الزحام؟.. طفل يعبر بلا حذر وبائع متجول يصرخ في أذنيها وسيدة تمر بكل ما في السوق.. شيخ مسن يرجو العبور وشباب يلعبون الكرة.. استدارت بسيارتها الصغيرة لطريق آخر لا تقصده. صادفها كوبري.. لا بأس.. سلكته.. وانطلقت بسيارتها الصغيرة.. وانطلقت معها كل الأفكار.. لماذا هواها الكثير؟.. لم تحلم بكل هؤلاء، ولا تفخر بكثرتهم كما تفعل بعض الفتيات.. إنها تريد قلباً واحداً لا أكثر.. وبتكاثرهم حول قلبها الصغير قلباً تلو الآخر، تكاثرت الأوجاع حوله.. فالبداية دائماً واحدة مع اختلاف التفاصيل.. انجذاب فإعجاب فتصريح، فشرود من جانبها، وظن بأنها قد درست الموقف بحنكة الخبيرة المميزة لصدق المشاعر من عدمها، ورغم تعقلها إلا أن قلبها يميل لكلمة حانية ونظرة هائمة.. فتلوح بالقبول ..وتبدأ الوعود والأمال تنهال على أذنيها.. وفجأة.. لا شيء.. هجر وتراجع وهروب، وربما لا يكترث هائم الأمس حتى بإبداء السبب!! واليوم جاءها قلب جديد.. نفس النظرة، نفس الارتباك.. نفس التلعثم، وربما يبثها يوماً نفس الكلمات.. آه.. ألا من هذا المشهد من آخر؟.. هل ستحيى عمرها على هذا المشهد؟!!.. الحياة تتسع لمشاهد أخرى لطالما تمنتها.. ألن تعيش مشهداً في بيتها.. بين أطفالها تنتظر زوجها بكل سكن ومودة ورحمة.. لديها الكثير لكي تلقنه لأطفالها.. تحلم بأن تبثهم حبها وكل حنانها.. تحلم بأن تنقل إليهم كل خبراتها.. تحلم بأن تحدثهم عن دينهم ووطنهم.. تحلم بأن تصور في عيونهم الصغيرة القدوة، وتصنع لهم الهدف.. تحلم بالنجاح في عملها وهي بجواره.. لا لن تعمل.. هكذا قررت يومًا.. فليس هناك ما هو أعظم من عملها في بناء بيت وجيل.. المهم أن تكون بجواره.. جواره هو.. هو وحده.. رائع أن يكون واعياً فاهماً مدركاً لمسئولية الحياة وسر الوجود. . فلماذا لا تلقى حلمها على بساطته؟.. وكلما ظنت أنها اقتربت منه أو كادت تقبض عليه، لاقته وهماً وسراباً بعيداً.. ابتعد عنها مهما اقتربت. كثيرًا ما تطرقت إلى أذانها كلمات الثناء والإطراء على رجاحة عقلها، وجاذبيتها واختلافها عن معظم الفتيات، وكانت تخجل لهذه الكلمات إلا أنها تطرب لها وتبثها ثقة في الاستمرار.. ولكنها لم تلقى دوماً إلا الخذلان. هل تعاني من شيء خفي لا يسمح لها بالاستمرار حتى النهاية أبداً ؟.. لماذا كل النهايات مفتوحة؟ كأنها رواية تطلق العنان لخيال الجمهور لأن يكتبوا النهاية بخيالاتهم.. وهي كيف ستحتمل هول كل هذه العذابات؟.. لا.. لن تسقط في هذه الهوة من جديد.. لن تدور في هذه الدائرة المغلقة المقيتة.. فقد سئمت الدوران.. أطلقت آهة ألم وزادت السرعة دون وعي وبحركة آلية، وزادت العبرات.. تسابقت مع السيارات على الجانبين.. ترنحت السيارة يمنة ويسرى.. صوت صفير حاد.. من أين هذا الصوت؟!!.. تسابقت العبرات على وجنتيها.. إنها لا ترى الطريق جيداً.. دموعها تحجب الرؤية.. ظنت أن شيئاً على الزجاج.. حاولت مسحه.. إنها لا ترى الطريق.. لا تراه.. تجدد الصوت الغريب.. أبواق سيارات.. إنذارات.. صياح.. ضجيج.. ما الأمر؟!!.. لا تدري.. طارت بسيارتها في الهواء وطارت كل الأفكار مع صرختها المدوية.. دارت السيارة في كل الاتجاهات وفجأة.. سكنت، وسكنت كل الأفكار.