تمنته أكثر من أى شىء آخر. كانت دائمًا ترقبه غدوةً ورواحًا، تتأمل تصرفاته ومشيته وسكناته بل ونظراته أيضًا. كان متوسط الطول، متوسط البنية، متوسط العمر، متوسط الحال، لكنه لم يكن متوسط الذكاء. كان واسع الاطلاع، لديه أسلوب جزل يأسر قلب ولب مستمعيه، لديه قدرة فائقة على الإقناع. لطالما رأته كمعلم لها، بل رأت أن المعلم هو أنسب دور له فى الحياة. كانت له جاذبية خاصة لم تكن نابعة من جمال الملامح قدر ما كانت نابعة من الثقة بالنفس. كانت له فلسفته الخاصة فى الحياة، فعلى الرغم من حاله المتوسطة ووظيفته الحكومية المتواضعة، فإنه كان معتدًا بنفسه وفكره؛ وكأنه تعويضه وثأره من حاله المتدنية التى يشعر أنها أقل من قدره كما كان يقول دائمًأ لأخيها "إحنا عيلتنا كلها موظفين أبًا عن جد.. وبعدين أنا أحسن من غيرى اللى شغالين مندوبين مبيعات ولا العاطلين... لكن برضه الوظيفة دى بتاكلنى زى العتة ما بتاكل القماش وبتخلينى شايط". كان إتقانه للغة الألمانية سببًا فى تعارفهما. فقد كانت تجد صعوبة فى مذاكرتها فى الثانوية العامة، وكانت تكره مدرس المدرسة، وإمكانياتها فى الوقت ذاته لم تكن تسمح بأخذ درس خصوصى. فكان صديق الأخ هو نعم العون فى هذه السنة الصعبة. كانت ترمقه بكل إعجاب وهو يدلف من باب الشقة التى تبدو وكأنها سراية فى الحلمية القديمة، بمجرد وجوده فيها. لم يكن طراز لبسه عتيق، إنما هيئته وطريقته فى التعامل تجعله يبدو كأنه طيف من زمن قديم. قدر إعجابها به كان حنقها عليه. لماذا لا يغير من نفسه؟ لماذا لا يستغل قدراته؟ لماذا لا يكون رجلاً عظيمًا؟ لماذا ولماذا؟ ينصرف عنها وتغرق فى مذاكرة أشعار نزار قبانى "متى ستعرف كم أهواك يا رجلاً أبيع من أجله الدنيا وما فيها". لكنها كانت تتراجع وتنهر نفسها. إنه إنسان متواضع الحال، وهى ترغب فى رغد العيش، فى إنسان يستغل قدراته وإمكانياته، يشبه نجوم السينما، تريده رجلاً ناجحًا وليس مجرد بطلاً رومانسيًا أو كادحًا. كانت تمقت فيه استسلامه بما قرر أن يكون مصيره. وبعد أن كانت تتلهف للجلوس معه وسماع إطراءاته على إتقانها للغة الألمانية، وسائر اهتماماتها الأخرى، بل وعليها كأنثى، أصبحت تمقت فى نفسها انجذابها لشخص "عادى" عابر فى حياتها، ترى مميزاته وهماً فى عينها فقط. لاذت بالقراءة وتذكرت أن وراء كل رجل عظيم امرأة. لم لا تكون هى تلك المرأة؟ وضعت الكتاب جانبًا وقامت ونظرت فى المرآة قائلة لنفسها: "أن هذا الجمال لا ينبغى أن يهدر فى الانتظار، لا يجب أن تبقى وراء أى رجل"، ربما أخطأت التقدير ولم يكن فعلاً رجلاً عظيمًا، ولن يكون كذلك. انصرفت إلى النافذة تطل منها علّها تجد رجلاً عظيمًأ فى انتظارها ليطرق بابها. سئمت الانتظار، فذهبت لنافذة أخرى لكنها كانت افتراضية. جلست تتابع آخر الأخبار على الفيس بوك، وترد على طلبات الصداقة friend requests على حسب معلومات "البروفايل" "مين شكله راجل عظيم؟ مين هيكون عريس مناسب؟" كان هذا هو المعيار، لو ناجح accept لو سقط فى كشف الهيئة ignore . مرت سنوات منذ أول تعارف بينهما وتخرجت من الجامعة، ورأت غيره كثير من الشباب، لكنها لا تدرى سر تعلقها به. كانت تطارد طيفه فى كل شاب تتعرف عليه أو خاطب يتقدم لها. ظنت أنه "عامل لها عمل بوقف الحال" كما كانت تردد صديقاتها. طال الانتظار وقررت أن تغير حياتها، وألا تنتظر رجلاً عظيمًا لن يأت أبدًا. قررت أخذ بعض الكورسات لتمكنها من الحصول على وظيفة أفضل، بدلاً من مؤهلها الذى لا يجعلها تحظى بفرص أفضل. كانت تطالع صورته فى ملامح كل المحاضرين، تسمع صوته فى كلامهم، تتذكر تعليقاته الساخرة. إنه رجل عظيم لكن فى نظرها فقط أو.. وهمها كما تظن. أنهت الكورسات وذهبت للتقدم لوظيفة باتت تحلم بها، ولحسن الحظ نجحت فى اختبار القبول والمقابلة الشخصية، وجاء وقت مقابلة المدير. كانت نبضات قلبها تتسارع، إنها على وشك أن تكون فى حضرة رجل عظيم، صاحب شركة من أكبر الشركات. جلست وأجابت على كل أسئلته إلا سؤالاً واحدًا ظل يراودها عجزت عن إجابته. "هل هو ذلك الرجل العظيم صديق أخيها؟ هل يشبهه حقًا؟ أم تشابهت عليها الملامح فم تعد ترى سوى طيفه فى ملامح الآخرين؟ نظرت إلى اللوحة المكتوب عليها اسمه لتتأكد، ربما يكون تشابه أسماء. إن كان هو فلم لا يذكرها؟ انتهت المقابلة وعادت إلى البيت. ظلت لساعات تطل من نافذتها حتى رأت أخاها ينزل من سيارة فخمة. غلبها فضولها وذهبت لمقابلته فى الصالون، فوجدته فى غاية السعادة يحكى لوالدته عن صديقه الذى لم ينس "أصحاب زمان"، وكيف تغير حاله وأصبح صاحب شركة من كبرى الشركات فى البلد، وأنه أخبره بقبول أخته للعمل فى الشركة، واندهش من عدم معرفتها له. اندهشت من قول أخيها وتساءلت "هل ترددها عن مصارحته بمعرفتها له هو السبب، أم ماذا؟" وقررت أن تصلح هذه الخطأ فى أول يوم عمل لها فى الشركة. كانت الصدفة هى مفتاح اللقاء. فعلى الرغم من عدم مجيئه فى هذا اليوم، إلا أنها قابلته عند انتهاء يوم العمل. كانت تنزل فى المصعد عندما فتح بابه لدى وصوله للدور الأرضى. لم تتمالك نفسها من الفرح وهمت بتحيته فبادرها قائلاً "أهلاً بست البنات.. دى بقى أنجب تلميذاتى، وأديها كمان حصلتنى هنا عشان أبقى مديرها زى ما كنت مدرسها". انتبهت من تركيزها لترى محدثه، فوجدتها امرأة جميلة أنيقة واثقة من نفسها تتأبط ذراعه. خلعت المرأة النظارة السوداء عن عينيها ورمقتها بنصف ابتسامة قائلة "فعلاً كل اللى يعرفك لازم يتعلم منك، بس ما تنساش إن وراء كل رجل عظيم امرأة". ضحك وهو يقودها لداخل المصعد قائلاً "طبعًا أنا ممكن أنسى حاجة زى دى". أغلق الباب ورائه وصعد المصعد لأعلى بينما تعلقت عيناها تتابع صعوده حتى غاب عن نظرها.