حكي لي والدي أنه" كان بجوار منزل العائلة القديم مكوجي رجل، وكان يجلس عنده في الدكان ليتسامرا حول حكايا الخلق و الأنام، وكان يتردد علي هذا المكوجي أهل الحتة ومن بينهم إمرأة عجوز ربما في السبعين من عمرها، كانت بيضاء ممتلئة الجسم ترتدي ملاءة سوداء، بدا علي وجهها علامات الزمن ولكن هذا لم يمحو آثار جمال كان فيما مضي، فحواجبها كانت رفيعة أو كما يقولون (علي الفتلة) فيه مسحة من جمال لا يدركه إلا أصحاب الخبرة، وكانت الكحلة لا تفارق عينيها، ممتلئة الجسم تلتف في ملاءة سوداء، وكانت تأتي يوم بعد يوم إلي المكوجي ومعها قميص ليكويه وينشي ياقته، ودائماً ما كانت تردف كلامها مع المكوجي بجملة "اكويه حلو ربنا يسترك عشان الأفندي بتاعي يروح بيه الشغل". استوقفني كثيراً ذلك الموقف الذي كان يتكرر يوماً بعد الآخر، ودأب هذه المرأة التي تجاوزت السبعين واهتمامها المبالغ فيه بقميص زوجها، الذي لا يتغير مع مرات الغسيل والكي، فقررت أن أتبعها لأعرف ما الحكاية، فتتبعت فضولي وسرت وراء تلك المرأة.، ووجدتها تسكن في ربع.. وهو بيت كبير مكون من مجموعة غرف متراصة بجوار بعضها البعض، تطل علي فناء المنزل الفسيح الذي تتوسطه فسقية، يجلس فيها السكان ليتسامروا في ليالي الصيف، وفي نهاية هذا الفناء يوجد حمام مشترك بين السكان، ويستعملونه جميعا حسب حاجتهم؛ فمنهم العازب الذي يعيش بمفرده، وسط صور فتيات الإعلانات الحسنوات الساكنات علي جدران غرفة ودلفة دولابه، ومنهم المُعيل صاحب العيال الذي يشقي عليهم ويسعي في طلب الرزق والمعايش، كي يتمكن من أن يسري علي أولاده وزوجته، ويكسيهم ملابس جديدة بعد أن تفرغ زوجته من جولة الإستحمام الجماعي لأبنائها بخرطوم المياه، ومنهم السيدة العجوز زوجة صاحب القميص. انتظرت أمام المنزل لأري الزوج سعيد الحظ صاحب القميص، لكني لم أره في هذا اليوم، وقررت اللجوء إلي الطريقة الأكيدة لمعرفة الأخبار، وهي وكالة الأنباء الشعبية عند "بخة المكوجي" الذي تأتيه كل الأخبار، في أناء الليل وأطراف النهار، دون أن يغادر محله معقل الأسرار.. وجلست عنده في المكان كالعادة، وتناولت القهوة سكر زيادة، حتي جاءت العجوز نفسها، ومعها القميص نفسه، وأعطته للمكوجي قائلة له "أكويه كويس ربنا يسترك عشان الأفندي بتاعي يروح بيه الشغل"، وتركت القميص ومضت إلي طريقها، وعنده سألت المكوجي وأنا يملأني الفضول:"هو فين الأفندي بتاعها ده صاحب القميص، أنا ما بشوفهوش ليه، هو مسافر ولا حاجة"، ابتسم المكوجي ونظر لي بخبث قائلا: "لأ ده قميص المرحوم جوزها اللي مات من خمس سنين، ومن ساعتها كل يوم تيجي وتجيب القميص، وتطلب مني أكويه وأنشي ياقته عشان خاطر الأفندي بتاعها الله يرحمه". خرجت من عند المكوجي وقد عقدت الدهشة لساني، ووجدت قدمي قد أخذتني إلي الربع الذي تسكن فيه هذه السيدة، وعندها أنفجرت من الضحك عندما جال في خاطري أنه ربما يكون كل من في هذا البيت مراحيم، وأني كنت أتحدث مع أشباح....