يتغير العالم في محيط لبنان أسرع من قدرة الكل على المتابعة والتحليل. يتغير بصورة يومية، بينما السلطة اللبنانية لا تزال قاصرة عن حماية نفسها من هذه التغيّرات، عدا الاستفادة من التحولات، أو استشراف الأفق والعالم الجديد. وفي خضم التغيرات الحاصلة، فإن أوهام قوى 14 آذار بأن ما يجري إنما يصب في مصلحتها مجرد خيال قاصر عن متابعة ما يحصل، وأن التحول في الشارع في العالم العربي يمكن أن يفيد في مواجهة المد الإيراني في المنطقة، وينعكس في مصلحة مواجهة حزب الله في لبنان، هذا الحساب أقرب الى انتظار حصول معجزة في زمن انتهت فيه المعجزات. فالصراع في الشارع العربي اليوم يُظهر أن قوى الماضي قد انتهت، أو هي على طريق النهاية، وأن الرهانات على الاستفادة من بقاء أنظمة، أو التعلق بما يمكن أن تكون عليه الثورات من ردة دينية، إنما ينطلق من مواقف رجعية تحاول تأبيد الواقع، وإدامة المصالح الحاصلة عليها هذه القوى، لا أكثر ولا أقل. لكنّ المستقبل سيحمل تغيّرات شتى، سيكون أمام كل القوى إعادة صياغة وجهتها؛ فمرحلة مواجهة مشروع جورج بوش الابن في المنطقة قد انتهت، ومرحلة المراهنات على «العروبة الحديثة»، التي تمثلها مصر حسني مبارك، وسعودية الملك والحاشية، والأردن ومحمود عباس، هذه المرحلة قد انتهت، وخلال الأعوام القليلة المقبلة سيكون على الجميع، عرباً وإسرائيليين، أتراكاً وإيرانيين، مواجهة منطقة مختلفة بمعادلات أقسى من التي كانت، ومع شعوب أقل ما يقال فيها إنها تتلمس سبل التغيير، لكن بعدما أفقدت الأنظمة والسلطات هيبتها بالكامل. ولن يشذ لبنان عن مواجهة الواقع الجديد، وسيكون هناك خاسر ورابح، وسيكون هناك أضرار مباشرة وأخرى مضمرة، لكن بحسب التقليد اللبناني فإن كل شيء سيغطّى بأكاذيب من عيار «لا غالب ولا مغلوب». في لحظة مقبلة سيواجه الجميع تحدي الفراغ، أو إجراء تعديلات جوهرية؛ حزب الله أولاً لن يتمكن من التحول الى مشروع مذهبي لحماية مقاومته، حيث تدل تجربته على أن الإيغال في العمق المذهبي سيحصره ويعزله في بلد كلما انعزلت مقاومته أو تمذهبت أصبحت مجرد عنصر في حكم الطوائف، وكلما اتجهت الى البعد التحرري في علاقتها بجمهورها، ووسعت دائرة تحالفاتها، تعززت واتسعت. لكن الفراغ الأخطر هو ذاك المطروح أمام من يحمل اليوم لواء تيار المستقبل، هذه الفئة التي ستشاهد في المقبل من الأيام فقدان المقومات الأولى لمشروعها، ولبنائها، ولامتدادها الخارجي، حيث سيكون الناس في مصر وفي غيرها من الدول مشغولين بثوراتهم، والسلطات في السعودية أعجز من أن تخوض صراعاً بالواسطة في لبنان، وحيث سيفقد المشروع الأول كل عناصره، وسيكون السنّة قد استنفدوا قضيتهم في لبنان، من دورهم في السلطة، الى موقفهم من التحول في سوريا وامتدادهم في العالم العربي، والموقف من المد الشيعي. سيكون عليهم هم أيضاً التحول تدريجياً عن قوى لم تعد قادرة على قيادتهم، فضلاً عن مدهم بأسباب الحياة، وستكون هذه القوى نفسها محافظة على حصصها في الحكم المحلي، لكن دون كبير فاعلية. إن كانت المرحلة المقبلة قاسية أمام قوى التغيير في المنطقة، وكذلك أمام حزب الله، فإنها ستكون أقسى أمام السنّة في لبنان. ليس المهم ما يقوله اليوم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن موقفه من حزب الله، وما نُقل عنه في ويكيليكس، ولا ما قاله عن المسألة الفلسطينية في الماضي القريب، ولا موقفه من المحكمة الدولية، ولن يكون مفيداً الإشارة الى موقف الرئيس عمر كرامي في السابع من أيار أو في حرب تموز. إنّ من يريد أن ينظر الى الأمام عليه معرفة أن عامين يفصلان عن الانتخابات النيابية المقبلة، وخلال هذه الفترة ستقطع التغيّرات في المنطقة العربية مسافة كبيرة، وستكون الأرض بحاجة الى كوادر وقوى مختلفة، ليس بالضرورة أن تحوز موافقة الناتو ولا المملكة السعودية ولا حتى قطر، لكن بالضرورة أن تسمع نبض الشارع في المحيط، ولا ينفع هدر الوقت في النقاش حول النسبية. إضاعة الوقت هي احتراف لبناني صرف، نعمد بعده الى معالجة انتظارنا للتغيرات حتى نبني عليها، ربما من الأجدى اليوم تأسيس فكرة سياسية صالحة للعيش في المرحلة المقبلة، بعيداً عن براغماتية السلطة، وعن أوهامها.