تناولنا في موضوع سابق، ما دار في ملتقى "الإعلام والهوية الوطنية" الذي نظمه المجلس الأعلى للإعلام في أبوظبي مع مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بالتعاون مع جمعية الصحفيين الإماراتية مؤخراً، واليوم نتطرق للتحديات التي "قرعت" ناقوس الخطر على الهوية الوطنية في دول مجلس التعاون الخليجي. 1- إن أهم ما يهدد الهوية الوطنية هو الخلل السكاني الذي جعل المواطنين أقلية ضمن مجتمع "كوزموبوليتكي" متعدد الجنسيات والاتجاهات واللغات والأديان والسلوكيات، على نحو يتعارض مع الهوية المجتمعية المحلية، وكذلك القيم الدينية. وهذا يستوجب بحث مستلزمات التنمية وتحديث المجتمع ودعم البنى التحتية والاستثمار في مواجهة ما يفرزه ذلك من ظواهر سلبية تمس حياة المواطنين ومستقبلهم. 2- تراجع توطين الإعلام، رغم الخطط والاتجاهات الرامية لذلك التوطين! إذ كلما تراجعت نسبة المواطنين في المؤسسة الإعلامية، تراجعت الصورة المحلية والخبر المحلي، وبذلك تراجعت الهوية الوطنية والثقافية. 3- تراجع إقبال المواطنين على العمل في المؤسسات الإعلامية، لوجود فرص عمل في مواقع أخرى، ولحدوث "نكوص" لدى كثيرين مفاده أن العمل الإعلامي ربما يمثل "نقيصة" للمواطن، وهذا يلجئ المؤسسات الرسمية للاستعانة بغير المواطنين، رغم أن فترة السبعينيات والثمانينيات شهدت إقبالاً واضحاً على العمل الإذاعي والتلفزيوني والصحفي. فمثلاً كان يوجد لدينا في تلفزيون قطر أكثر من 10 مذيعين مواطنين وستة مذيعات مواطنات، وهذا العدد دعم الصورة المحلية، وأنتج برامج محلية دعمت الهوية الوطنية والبرامج التراثية والثقافية، وكانت نفس الأرقام في إذاعة قطر، أما اليوم فعدد المذيعين من مقدمي الأخبار ومعدي البرامج فلا يزيد عن ثلاثة! يحدث هذا رغم وعي المجتمع وتطور الأفكار والمواقف، وزيادة أعداد الخريجين من كلية الإعلام بجامعة قطر، ورغم التطور التكنولوجي الذي يحفز العقول لتقديم برامج "غير تقليدية" تساهم في حفظ الهوية الوطنية. 4- كثرة استيراد المواد الإعلامية الخارجية في التلفزيونات الخليجية، ولقد بلغت نسبة الدراما –وهي من فئة الترفيه–حوالي 47 في المئة من مجموع ساعات البث، ناهيك عن الأفلام العربية والأجنبية التي تصّنف في ذات الفئة، وهذا يجعل مساحة البرامج المحلية محدودة، خصوصاً في ظل غياب المعد الجيد والمقدم المؤهل للخوض في القضايا المحلية، السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية. 5- يلاحظ عدم تواؤم المخرجات الإعلامية مع الرؤى الوطنية، وهذه إشكالية تطرح أسئلة كثيرة حول إعلام الأزمات، وإعلام تبرير المواقف الجديدة، ودور الإذاعات والتلفزيونات المحلية في الترويج لخطط التنمية أو الاتجاهات السياسية، بل وشرح المشاريع والبيانات المحلية التي تستهدف الاستثمار والمواقف السياسية الجديدة للدول. وهذا يحرم المتلقين من تفهم نوعية واشتراطات تلك الرؤى وبالتالي لا يشعرون بمدى استعدادهم لتقبلها أو الإيمان بها، والأهم التصدي للإعلام المضاد الذي يوهن ويضعف تلك الرؤى. 6- تتفاوت نسبة توطين الصحافة في دول مجلس التعاون، حيث توجد جريدة خليجية، كل من يعمل فيها من المواطنين بدءاً من رئيس التحرير وحتى حارس الجريدة! بينما لا نجد في صحف أخرى أكثر من 5 في المئة من المواطنين. وظلت الأسئلة والمبررات التي نوقشت في منتصف السبعينيات -عبر مركز شباب الدوحة– حول مستقبل الصحافة في قطر، هي نفسها، مع التقدير لقيام بعض دور الصحف بتعيين مديري تحرير أو نواب رئيس التحرير من المواطنين، وكذلك تعيين رؤساء أقسام من المواطنين. ما تواجهه الصحافة الخليجية –وإن بتفاوت– هو وجود الصحفي الإداري (لا الصحفي المنتج) الذي "يوقع" على بروفة الصفحات فقط، وهذه الإشكالية التي لم تحل حتى الآن. كذلك بقيت الأسباب والمبررات ذاتها حول الموضوع منذ السبعينيات وحتى اليوم فيما يتعلق بالأمور المادية وحقوق الصحفيين. 7- تواري دور الجيل المؤهل من الإعلاميين الخليجيين نظراً لكبر سنهم، وفي أحيان أخرى إحالتهم على التقاعد المبكر، وعدم الاهتمام بهم حتى في مسائل التدريب والاستشارة، حيث يتم إحضار مدربين ومحاضرين من الخارج، بينما يوجد من المواطنين من له خبرة تزيد على الثلاثين عاماً في مجال الإعلام بالإضافة إلى المؤهل العلمي العالي. لقد تطرق أحد المتدخلين في الملتقى، فلاحظ أن بعض المؤسسات الإعلامية المتخصصة تدار من قبل إداريين بعيدين عن التخصص الإعلامي، وبعضهم قليلي الخبرة، وهذا يخلق هوة واضحة بين هؤلاء الإداريين "من أهل الثقة" وبين أهل الخبرة الذين مارسوا العمل الإعلامي لسنوات طويلة! ونلاحظ عدم وجود اتصال مهني بين هؤلاء المديرين وبين الممارسين للعمل الإعلامي اليوم، وغياب لغة الإعلام ومصطلحاتها المعروفة وعدم تفهمها من قبل الإداريين. 8- الاستخفاف بقيمة العمل الإعلامي من كثيرين ممن نسمعهم أو نشاهدهم على الشاشة! فهم إما مستعجلو شهرة، أو ناقصو ثقافة، أو محتاجو توجيه، أو مالكو وساطة! والعمل الإعلامي لا تجوز فيه الواسطة، بل المؤهل والاستعداد الفني والثقافي واللغوي. لقد شهدنا تعيين مذيعين (ومذيعات) لا يجيدون اللغة العربية –وهي لغة المجتمع وأساس الاتصال الإعلامي– عكس ما كنا نشهده في السبعينيات حيث كان الشرط الأساسي لاختيار المذيع اختبار لغته العربية. ثم تأتي بقية الشروط من نقاء الصوت، وحسن مخارج الحروف، واستواء الأداء، والإيقاع، والثقافة العامة. ونلاحظ اليوم أن جل هذه الاشتراطات لا تتوافر في مذيعي ومذيعات هذه الأيام، ونجدهم "يسقطون" في أول امتحانات اللغة. ولن نتحدث عن الثقافة العامة وحسن التصرف أمام الشاشة وخلف المايكروفون! وقد سمعت مذيعة لا تحسن لفظ اسم الحكيم الصيني "كونفوشيوس" ولفظته بثلاثة أشكال! كما لن نتطرق للخروجات الواضحة على مهنية التقديم هذه الأيام، فهذا مبحث طويل ومؤلم. فمن المسؤول عن تواصل هذا النمط من الخروج على مهنية الإعلام، وهذا التساهل في قبول الأصوات والوجوه غير المؤهلة؟ هموم كثيرة أثارها ملتقى الإعلام والهوية الوطنية في أبوظبي، ولعل الرسالة تصل إلى أهلها، من أجل إعلام يعزز الهوية الوطنية ويؤكد الالتزام بالقيم المهنية للإعلام الصحيح.