حين أتعبته وحدته، قرر عدنان أن يقتني كلبا يُذهب بعوائه وحشة الليالي وبرودة الفراش. وشيئا فشيئا، صار الكلب رفيقا دنيا، يؤنس ليل الرجل ويرافق خطوه ويقضي حاجته. وذات يوم، مرض عدنان، فلم تستطع قدماه الواهنتان حمله إلى مطعم الحي ليشتري ما يسد به جوعته، فقرر أن يغامر بإرسال كلبه الوفي حاملا سلته. وأمام المطعم، وقف الكلب يعوي كمن لدغته رقطاء ذات أجراس، فأدرك صاحب المكان أن للكلب حاجة لم يترجمها نباحه المتقطع، فخرج وفي يده عظمه ألقاها بين قدميه المفتوحتين كطريق جبلي ضيق، ثم كر راجعا. لكن نباح الكلب اشتد وأرعد، فعاد صاحبنا وفي يده كتلة من اللحم السمين ليُطفئ بها ثورة الكلب الجامحة. لكنه انتبه إلى العظمة في مكانها، وإلى السلة قرب الباب، فوعى الرسالة، وعاد الكلب محملا بما لذ وطاب من مشهيات لصديقه المريض. تعلم عدنان منذ ذلك الوهن أن يثق بأضراس كلبه، وتعلم الكلب أن رضا صاحبه خير من لذة لا تدوم، وعظمة لا تسمن ولا تغني من تشرد. وظل الحال على ما كان، حتى وقع ما لم يكن في الحسبان. فذات عودة، قد تربص كلبان شرسان بسلة ذات أربعة قوائم. وذات غدر، تقدم أحدهما من رائحة الشواء حتى صار قاب قوسين أو أدنى من الوعاء. عندها ارتاب صاحب السلة، ورفع ذيله وأذنيه، ووضع السلة إلى جوار حائط متهالك وشمر عن مخالبه. وبدأت معركة بين نباحين حتى انضم إليهما ثالث، وأدرك كلب عدنان أن المعركة محسومة وأنه لا محالة منهزم. لم يطل الأمر بالذائد عن سلة صاحبه، فسرعان ما سال القرار من بين لعابه. وضع الكلب السلة بين قوائمه، والدجاجة المقلية بين فكيه. وبعد طول مسغبة، أطل عدنان من شرفة بيته، فرأى كلبه المخلص جدا قادما يتمايل تحت شعاع باهت يتدلى من عمود إنارة قريب، وقد علق السلة الخاوية فوق بطن منبعجة كرقبة جمل. لكن أنياب الكلب وأضراسه تظل دوما فوق مستوى الإدانة، إذ لم يعرف التاريخ كلبا تخلى عن مخالبه أو مقدمات أضراسه في أي صفقة مشبوهة من فوق الطاولة أم من تحتها. لكن دفء الفراش يغوي بالتجمل الكاذب خلف أعاليل باطلة تبرر التمدد خارج أروقة التاريخ في انتظار وجبة دسمة تحملها الأنياب الحادة ذات نهار. حتما سيطول انتظار عدنان وكل عدنان يثق بحكايات قبل النوم وأساطير العنقاء والخل الوفي. وحتما ستقع الغنيمة الباردة بين فكي حامي الحمى وحارس الأسلاك الشائكة، طالما ظل عدنان ملتحفا بدثار ثقة غير مقدرة في مخالب لم توقع على صك ولاء إلا للمصالح العابرة للأقطار. ما أشبه السلة بالبارحة، وما أشد سخافة العدنانيين الذين يرون كلابهم الوفية للغاية تتهادى كل ليلة فوق شوارعهم الربيعية وفي عنقها سلة خاوية من كل أمل، لأنهم قرأوا ذات كسل قصة مدهشة تحت وسائدهم الخالية عن كلب قتله صاحبه ظنا منه بأن الكلب قد أكل وليده، بينما كانت الدماء على شارب كلبه وسام أمانة لصل أراد أن يلدغ الطفل أثناء نومه. لكن ما عذر عدنان اليوم، وقد تمادى الكلب في غيه، وصار يصدر فرمانات لصاحب السلة الفارغة؟ ما حجة عدنان اليوم وهو يتجه صوب السوق كل صباح ليملأ سلته المغتصبة بما لذ وطاب من خيرات ليضعها كل مساء بين مخالب كلبه الكسول؟ ما عذر عدنان وقد تخلت الأنياب والأضراس عن حماية حظيرته التي لم تعد مطمعا لأي سارق بعد أن خلت من كل كبد رطبة؟ يدهشني تحول بلادنا المستباحة إلى حسينيات كبيرة لا تجيد إلا ضرب الصدور وقرع الرؤوس على جريمة لم يرتكبها صاحب المأتم أو أحد من المعزين. يدهشني أن نكفر عن خطأ في رواية كاذبة لجد لم يحسن الثقة بالأضراس والمخالب. ويدهشني انتظار طال لسلة أبدا لا تأتينا إلا فارغة بعد كل انتظار جديب. ويدهشني هؤلاء الذين يملأون أشداقهم بآلاف الحجج لتبرير بقائهم تحت الأغطية في أشد المواسم حرا!.