جلس مسن إلى جوار صندوق خشبي فارغ ذات قيظ على أحد أرصفة شارع مكتظ بالمارة، وإلى جواره لافتة تقول: "أنا أعمى، ساعدوني،". إلا أن المارة كانوا ينظرون إلى لافتته نظرة ازدراء ويديرون لصندوقه الفارغ جنوبهم وظهورهم، دون أن يقفوا قليلا عند بؤسه لسماع شهادته على عصر يسكر بدموع الفقراء على كافة الأرصفة. بعد ساعات من الخيبة المريرة، مرت بلافتة العجوز فتاة شابة تعمل في مجال الدعاية، فرثت لحاله، وأدارت اللافتة وكتبت على وجهها الآخر شيئا، ومضت في سبيلها. بعدها بدأ المارة يتقاطرون على الصندوق ليلقوا به ما ضنت به أياديهم منذ قليل. وحين أوشك الصندوق على الامتلاء، استوقف الشحاذ أحد المتبرعين ليقرأ له ما كتبت الفتاة، فقرأ الرجل: "إنه ليوم جميل! أنت تراه، ولكنني لا أراه." لم تتغير اللافتة ولم يتحول الرجل من شارع يعج بالمواخر وبائعات الهوى إلى شارع مليئ بالكنائس والمساجد والقلوب الطيبة، ولم يختلف الصندوق ولا حجارة الرصيف. تغيرت فقط صياغة الكلمات لتعني الشيء نفسه مع تعديل في اتجاه اللافتة لتنفذ الرسالة بسلاسة إلى القلوب الغلف. الكلام إذن بضاعة تدر ربحا هائلا كما فعلت هنا أو تقتل صاحبها كما فعلت بالمتنبي حين ذكّره متربِّص حين أراد أن يفر هاربا بقوله: "الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم،" فعاد ليلقى حتفه بسيف حدَّ شفرته بلسانه. الكلمة إذن قادرة على الترويج للفكرة أو قتلها في مهدها دون أدنى رثاء من سامع أو مشاهد. لذلك على دعاة العصر الذين وَطَّأ الله لهم أكناف مصر، وأورثهم مقاعد الظالمين ممن عاثوا في الأرض فسادا وفي الحكم استبدادا أن يدربوا ألسنتهم على التحدث كما يتحدث أهل مصر وأن يعبروا عن طموح هذا الشعب دون أن ينشغلوا بمزايدات ومهاترات وحروب خفية لا ناقة للشعب فيها ولا جمل. وأن لا يجعلوا مجلس الشعب الذي أعد لخدمة الأمة بكافة طوائفها وطيوفها مسرحا لمساجلات فقهية لا تدرء مفسدة ولا تجلب نفعا. ما شهده مجلس الشعب من اختلاف على مشروعية الوقوف حدادا على روح بشرية صعدت إلى بارئها صار مادة دسمة للمغرضين ومسمارا يمكن أن يدق في نعش هذا الوطن متى أراد النافخون في نار الفتن إفتعال حريق في نسيج البلاد. كان الأحرى بمن يعارض الوقوف حدادا أن يخطر رئيس المجلس بموقف حزبه قبل أن تقع فأس الرفض في رأس الاتفاق. لو كان الوقوف حدادا مخالفا للشرع، فلماذا طالب به رجل يقف على قمة هرم جماعة إسلامية كبيرة، ولو كان لا يعارض سنة، فلماذا رفضته ثاني أكبر كتلة برلمانية في مجلس الشعب؟ هكذا أسئلة يمكن أن تطرح على المقاهي وفي المساجد وفي الفضائيات وعلى صفحات الجرائد، فيدلي كل مواطن بدلوه في أمور شرعية وفتاوى لا يجب أن يجترئ على الخوض العوام. لذلك أرى وجوب إلحاق لجنة فتوى من فقهاء الأزهر المشهود لهم بالوسطية والاعتدال بمجلس الشعب تعرض عليها هكذا أمور قبل طرحها على أعضاء المجلس وتكون ملزمة للجميع. ويجب أن يتذكر أعضاء المجلس أن صرف انتباه الناس إلى قضايا فرعية من هذا النوع في وقت لا يجد فيه المواطن البسيط أبسط مقومات الحياة هو نوع من الترف العقلي والفراغ الفكري الذي لا يؤمل أن يقود البلاد إلى أي رخاء. وليعلم نواب المجلس أن مجلسهم هذا مجلس الأمة الذي ينبغي أن يعبر بصدق عن هموم المواطن وآماله وليس دار إفتاء أو منتدى للحوار والتقارب بين الجماعات.