دخلت جيوش الأردن ومصر والعراق وسوريا ولبنان الي فلسطين في 51 مايو 8491 وهي تجهل حالة اليهود ومقدار قواتهم ومدي تسلحهم ومناعة تحصيناتهم في الوقت الذي كان فيه اليهود يعرفون الكثير عن هذه الجيوش. ورغم الدعايات الواسعة التي احيط بها تقدم القوات العربية في القسم العربي من فلسطين إلا ان الواقع كان مغايرا. وكانت النتيجة ان القوات العربية لم تنجح في تحقيق أهدافها. بل لقد استولي اليهود علي اراض جديدة لم تخصص لهم في قرار التقسيم، واضطرت الدول العربية الي قبول الهدنة التي قيل انها تستهدف التمهيد لقيام سلام دائم في فلسطين. وقد حارت الجماهير العربية في تفسير ماحدث. حقيقة انها خدرت بالبيانات الكاذبة، الا انه كان من المستحيل التكتم علي الحقائق بعد عودة المقاتلين الي اوطانهم- وكانت النتيجة هي اهتزاز هيبة الأنظمة الحاكمة التي مالبث بعضها ان سقط بعد قليل نتيجة لانقلابات عسكرية قام بها بعض الضباط الذين اشتركوا في الحرب. وكانت قضية الأسلحة الفاسدة أول معول وجه الي نظام الحكم القائم في مصر- وأساس هذه القضية ان الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا قد اصدرت بعد نشوب الحرب في فلسطين بيانا يحظر تصدير الأسلحة والذخائر الي الدول المتحاربة. وعلي حين ان الدولة اليهودية كان لديها ما يكفيها من الاسلحة، بالاضافة الي ما صنع منها محليا، فان عمليات التهريب الي داخل فلسطين لم تتوقف. بل لقد افلحت السلطات اليهودية في عقد صفقة اسلحة مع تشيكوسلوفاكيا وافق عليها ستالين الذي كان يسعي الي ايجاد حالة ارتباك في الشرق الأوسط تمهد للقضاء علي النفوذ الغربي في المنطقة. وقد تدفقت الاسلحة التشيكية علي فلسطين بعد الهدنة الأولي وكان لها اثرها في انهاء الحرب لصالح اليهود. وازاء الحظر الذي فرض علي توريد السلاح الي المنطقة، وهو الحظر الذي تحايل اليهود علي خرقه فان وزارة الحربية والبحرية المصرية سعت بعد ان كادت تنفد اسلحتها في المراحل الاولي من الحرب الي الحصول علي السلاح من السوق السوداء باي ثمن وبغض النظر عن صلاحية هذه الأسلحة. وظهر وسطاء وعملاء استغلوا الموقف للحصول علي الربح السهل. وكان الصحفي الراحل احسان عبدالقدوس هو الذي قام بحملة صحفية مكثفة علي صفحات مجلة »روز اليوسف« كشفت ابعاد الصفقات المريبة التي احاطت بتوريد السلاح الفاسد الذي قيل ان بعضه كان سببا في الهزيمة، ولو ان ذلك لا يفسر كل الاسباب التي المحنا إليها من قبل. وكان هدف احسان من الحملات الصحفية التي شنها هو مهاجمة النظام القائم وتحريض الرأي العام- وبخاصة في صفوف القوات المسلحة- علي الثورة.. وقد تنبه الي موضوع الاسلحة الفاسدة اثناء وجوده في ايطاليا التي استمع فيها الي اخبار عن صفقات الأسلحة التي عقدها مندوبو الجيش المصري. وفي 02 يوليه 9491 كتب مقالا عنوانه »محاكمة مجرمي حرب فلسطين« طالب فيه بتشكيل محكمة لمحاكمتهم. ورغم ان مقاله لم يثر اهتماما جديا في البداية فانه واصل هجومه علي النظام القائم مستغلا فيه الأنباء التي وصلته عن صفقات الاسلحة التي كانت تعقد في ايطاليا وفرنسا. ورغم المخاطر التي تعرض لها احسان، ومنها محاولة قتله، فانه استطاع ان يلفت الأنظار الي الفئة التي سعت الي الاثراء باستيراد الأسلحة فاسدة وغير فاسدة وكان من نتيجة ذلك ان محمود محمد محمود رئيس ديوان المحاسبة، ضمن تقريره السنوي عن الحساب الختامي بعض صفقات الاسلحة والذخيرة التي ايدها بالوثائق، ولكن تقرير رئيس ديوان المحاسبة لم ينجح في تحريك القضية بل لقد اصرت الحكومة حين تقدم للمطبعة الاميرية لطبع التقرير علي ضرورة حذف العبارات التي تشير الي وجود تلاعب في صفقات الأسلحة ولكنه اصر بدوره علي نشر التقرير كاملا. ولما لم تستجب الحكومة لطلبه قدم استقالته من منصبه. ولم يقف الامر عند هذا الحد، بل اثير الموضوع في مجلس الشيوخ علي يد مصطي مرعي العضو في المجلس الذي استخرج من تقرير رئيس ديوان المحاسبة السابق مستندات تثبت التلاعب في شراء صفقات السلاح التي ثبت انها كانت تتم بعلم رجال وزارة الحربية بما فيها من تلاعب. وطرد مصطفي مرعي من عضوية مجلس الشيوخ ومعه كل من ايده من الأعضاء بل لقد وصل الأمر الي عزل رئيس مجلس الشيوخ الذي سمح بمناقشة الاستجواب! وازاء كل ذلك لم يجد احسان بدا من الاتجاه الي ضباط الجيش الساخطين علي فساد النظام القائم فعقد معهم اجتماعا في بيت احدهم ثم اجري اتصالات مع شباب الضباط الذين اشتركوا في حرب فلسطين واستغل المعلومات التي وصلت اليه في كتابة مزيد من المقالات في مجلة »روزاليوسف« ومنها مقال استفز فيه وزير الداخلية الوفدي فؤاد سراج الدين علي امل ان يقدم الي المحاكمة. وبلغت الحكومة الوفدية النائب العام ضده للتحقيق معه في مجموعة المقالات التي بدا نشرها في 6 يونية 0591 ولكنه امكنه بمساعدة اصدقائه ان يحصل علي صورة للعقد المبرم بين احد تجار الاسلحة وبين زوجة ضابط كبير وهو العقد الذي كان ينص علي قيام الشركة بينهما لتوريد الأسلحة الخاصة بحرب فلسطين وادي ما نشره احسان الي تحقيق النائب العام معه- وتطرق التحقيق الي »النبيل« عباس حليم- الذي اتهمه احسان رسميا امام النائب العام بعد ان حصل من شباب الضباط علي ادلة اتهامه. وبعد ان انتهي من الأدلاء بشهادته نشر نداء يطالب فيه المواطنين بان يتقدم كل من لديه معلومات تتصل بالقضية للادلاء بها للنيابة مع وعد بحمايته.. ومن هذه المعلومات التي وردت اليه ما ثبت من ان احد التجار كان قد انتشل الذخيرة من البحر بالقرب من السواحل الايطالية وكانت موجودة في سفن الحلفاء التي اغرقتها الغواصات الألمانية- ورغم فساد هذه الأسلحة التي بقيت سنوات في مياه البحر المتوسط فانها بيعت للجيش المصري. وكما سبقت الاشارة كانت حملة احسان موجهة ضد النظام الملكي القائم مع الاستعانة ببعض صفقات الاسلحة التي تمت خلال حرب فلسطين. وقد ثبت تاريخيا ان هذه الاسلحة الفاسدة لم تكن بالاهمية التي علقها احسان عليها بل ان الهزيمة في فلسطين في عامي 8491، 9491 كانت مرتبطة بعجز النظام القائم في مصر وضحالة معلوماته عن قوة اليهود واستعداداتهم وتدخل السراي في سير العمليات الحربية وعدم كفاءة القائد العام- حيدر باشا الذي كان لجهله قد زين الملك فاروق ان النصر وشيك- هذا في الوقت الذي مني فيه عبدالرحمن عزام الملك بتبوؤ زعامة العالم العربي كله وزين له ان انقاذ فلسطين سيتحقق بسهولة خلال ثلاثة أسابيع، وسيكون الخطوة الأولي التي تقوم بها الجامعة العربية، تحت زعامة مصر لضمان حرية ليبيا اولا ثم بقية شمال افريقيا! وعلي أية حال فقد اصدر النائب العام في 82 مارس 1591 قرارا بحفظ التحقيقات بالنسبة لأفراد الحاشية الملكية جاء فيه ان كل ما اسند اليهم تبين عدم صحته، كما اعتذر رئيس الوزراء الوفدي مصطفي النحاس- للملك عما حدث من تحقيقات في قضية الأسلحة الفاسدة مع بعض افراد الحاشية الملكية. وبعد قيام ثورة 2591 اعادت النيابة التحقيق في القضية وانتهت الي حفظها من جديد، بعد ان لم تقدم مدنيا او عسكريا الي المحاكمة، ورغم كل ذلك فان هذه القضية قد نجحت في المساس بهيبة النظام القائم الذي فشل في مواجهة مشاكل البلاد وايجاد حلول لها فشله في الحرب الفلسطينية التي اشترك فيها الجيش المصري دون اي استعداد. وفي ختام هذا المقال لابد ان نشيد بجرأة احسان عبدالقدوس ووطنيته في تناول هذه القضية التي كادت تهدر حياته.. ورحمة الله علي هذا الكاتب الذي طالما هز ضمائر جيلنا الذي كان متفتحا لقضايا بلده ومستعدا لخوض الصعاب في سبيل رفعته وتقدمه. محمود الورداني