موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للموظفين.. مدفوعة الأجر    خلال ساعات.. رابط نتيجة تقليل الاغتراب 2025 من موقع التنسيق الرسمي    كليات ومعاهد تقبل من 50% علمي علوم ورياضة في تنسيق المرحلة الثالثة 2025 «الرابط وموعد التسجيل»    عيار 21 الآن بالمصنعية.. سعر الذهب اليوم في مصر الأربعاء 20-8-2025 بعد هبوطه عالميًا    بيسينت: القمة الثلاثية الروسية الأمريكية الأوكرانية قد تعقد في بودابست    بعثة سيدات الطائرة تغادر إلى تايلاند للمشاركة فى بطولة العالم    تحدث بصوتك لغة أخرى، إطلاق الدبلجة الصوتية في فيسبوك وإنستجرام    المناعة الذاتية بوابة الشغف والتوازن    مجلس القضاء الأعلى يقر الجزء الأول من الحركة القضائية    31 مليون جنيه مصري.. سعر ومواصفات ساعة صلاح في حفل الأفضل بالدوري الإنجليزي    بعد التعادل أمام المصري.. بيراميدز ينتقد الأداء التحكيمي    ملف يلا كورة.. بيان الزمالك.. تتويج صلاح.. وحالة مصابي الأهلي    "مكانش بيسيب فرض"..جيران والد حارس الأهلي في كفر الشيخ يكشفون اللحظات الأخيرة في حياته    ترامب: رئيس البنك المركزي يضر بقطاع الإسكان وعليه خفض أسعار الفائدة    محاكمة المتهم بابتزاز الفنان طارق ريحان اليوم    40 مليون جنيه خلال 20 يوما، "روكي الغلابة" ل دنيا سمير غانم يحقق إيرادات قوية بمصر    10 صور ترصد استعدادات قرية السلامية بقنا للاحتفال بمولد العذراء    يومان راحة سلبية للاعبي المصري والفريق يستأنف تدريباته الجمعة استعدادًا لملاقاة حرس الحدود    مفاجآت نارية.. ثلاثي الأهلي بين أبرز المستبعدين من معسكر منتخب مصر وإصابات تهدد آخرين    الاسكان توضح موقف قرار سحب الأرض المخصصة لنادى الزمالك    6 رسائل مهمة من مدبولي أمام مجلس الأعمال المصري الياباني بطوكيو    موعد امتحان الصف التاسع 2025 التعويضي في سوريا.. وزارة التربية والتعليم السورية تعلن    استولوا على ربع مليون جنيه.. ضبط تشكيل عصابي استهدف مندوبي شركة دفع إلكتروني ببورسعيد    خلال بحثه عن طعام لطفلته.. استشهاد محمد شعلان لاعب منتخب السلة الفلسطيني    قصف مدفعي إسرائيلي يستهدف حي الصبرة جنوب غزة    بعد موافقة حماس على وقف اطلاق النار .. تصعيد صهيوني فى قطاع غزة ومنظمة العفو تتهم الاحتلال يتنفيذ سياسة تجويع متعمد    محافظ شمال سيناء يلتقى رئيس جامعة العريش    مصدر أمني ينفي تداول مكالمة إباحية لشخص يدعي أنه مساعد وزير الداخلية    ترامب يترقب لقاء بوتين وزيلينسكي: «أريد أن أرى ما سيحدث»    مصطفى قمر يهنئ عمرو دياب بألبومه الجديد: هعملك أغنية مخصوص    الإليزيه: ربط الاعتراف بفلسطين بمعاداة السامية مغالطة خطيرة    جولة ميدانية لنائب محافظ قنا لمتابعة انتظام عمل الوحدات الصحية    في أقل من 6 ساعات، مباحث الغربية تضبط سائق شاحنة دهس طفلا وهرب بقرية الناصرية    أكلة لذيذة واقتصادية، طريقة عمل كفتة الأرز    وسام أبو علي: أبحث عن الإنجازات الفردية والجماعية مع كولومبوس كرو    «كنت بفرح بالهدايا زي الأطفال».. أنوسة كوتة تستعيد ذكريات زوجها الراحل محمد رحيم في عيد ميلاده    1 سبتمر.. اختبار حاصلى الثانوية العامة السعودية للالتحاق بالجامعات الحكومية    أحمد العجوز: لن نصمت عن الأخطاء التحكيمية التي أضرتنا    نقابة الصحفيين تعلن المرشحون للفوز بجائزة محمد عيسى الشرقاوي «للتغطية الخارجية»    «مصنوعة خصيصًا لها».. هدية فاخرة ل«الدكتورة يومي» من زوجها الملياردير تثير تفاعلًا (فيديو)    أسعار الفراخ البيضاء والبلدي وكرتونة البيض بالأسواق اليوم الأربعاء 20 أغسطس 2025    حملة مسائية بحي عتاقة لإزالة الإشغالات وفتح السيولة المرورية بشوارع السويس.. صور    شاهد.. رد فعل فتاة في أمريكا تتذوق طعم «العيش البلدي المصري» لأول مرة    بعيدًا عن الشائعات.. محمود سعد يطمئن جمهور أنغام على حالتها الصحية    هشام يكن: أنا أول من ضم محمد صلاح لمنتخب مصر لأنه لاعب كبير    تخريج دفعة جديدة من دبلومة العلوم اللاهوتية والكنسية بإكليريكية الإسكندرية بيد قداسة البابا    تنفيذ حكم الإعدام في قاتل المذيعة شيماء جمال وشريكه    رئيس وكالة «جايكا» اليابانية مع انعقاد قمة «التيكاد»: إفريقيا ذات تنوع وفرص غير عادية    السيطرة على حريق بأسطح منازل بمدينة الأقصر وإصابة 6 مواطنين باختناقات طفيفة    قادة عسكريون فى الناتو يجتمعون عبر الفيديو اليوم لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا    حدث بالفن| سرقة فنانة ورقص منى زكي وأحمد حلمي وتعليق دينا الشربيني على توقف فيلمها مع كريم محمود عبدالعزيز    تحتوي على مواد مسرطنة، خبيرة تغذية تكشف أضرار النودلز (فيديو)    تعدّى على أبيه دفاعاً عن أمه.. والأم تسأل عن الحكم وأمين الفتوى يرد    هل الكلام أثناء الوضوء يبطله؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف تعرف أن الله يحبك؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    أمين الفتوى ل الستات مايعرفوش يكدبوا: لا توجد صداقة بين الرجل والمرأة.. فيديو    الشيخ خالد الجندى: افعلوا هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله    بالصور- افتتاح مقر التأمين الصحي بواحة بلاط في الوادي الجديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رأفت الهجان: هذه هي حكايتي التي قمت بإخفائها عن أقرب الناس لي
نشر في أخبار الحوادث يوم 07 - 02 - 2018

"لا أعتقد أنه من الإنصاف أبدًا أن يشتدّ بي المرض على هذا النحو، ولكن هذا أوصلني على الأقل إلى الاقتناع بأن أشرع فورًا في تدوين الحقيقة المتعلقة بي وبحياتي"، كلمات بدأ بها العميل الراحل مذكراته، التي كتبها بخط يده وتركها لزوجته بعد وفاته، لتكشف لها الجانب الآخر من حياة زوجها، شخصيته المصرية التي تتخفّى خلف قناع إسرائيلي يحمل اسم جاك بيتون، لم تكن تعرف هي أن اسمه كان رفعت الجمال، وكانت السطور القادمة ستحمل لها كثيرًا من المعلومات عن شخصية زوجها، المفاجآت قادمة وكثيرة.
غيرت السينما حياته، كما وضح في روايته، حين أوضح: »من خلال السينما اتسعت مداركي ومعارفي عن التاريخ العربي، وعقدت العزم أيضًا على أن أكمل دراستي. وأكملت بالفعل دراستي في صيف 1946 بينما كنت أمثل في فيلم جديد، وهنا قابلت «بيتي«، وهي راقصة شابة، وأصبحت أول حب في حياتي، كانت مراهقة طائشة، ولكنها كانت آنذاك ذات شأن كبير بالنسبة لي، فقد فتحت أمامي عالمًا جديدًا، كانت تكبرني بعام واحد، ولكنها كانت تفوقني تحررًا وخبرة وعلمتني الكثير، ووصل الأمر إلى أني انتقلت للعيش معها، حيث كانت تسكن قريبًا من الاستوديوهات التي تعمل بها، كانت هي أول امرأة قبلتها، وبالطبع كان الرأي السائد في تلك الأيام هو أن من مظاهر الفسق التي تستثير المشاعر أن تحيا مع امرأة لست متزوجًا بها، واستشاط لبيب غضبًا، ومع هذا فقد كنت صبيًا خامًا حين انتقلت للعيش معها وخرجت من عندها رجلًا».
وتقدمت بطلب لوظيفة لدى شركة بترول أجنبية على ساحل البحر الأحمر، واختاروني على الرغم من كثرة عدد المتقدمين، وتسلمت العمل فورًا، ومن المؤكد أنه ساعدني في هذا أنني كنت أتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، وانتقلت إلى رأس غارب، التي تقع على بعد 150 ميلًا جنوب السويس وبقيت هناك لمدة خمسة عشر شهرًا، وكنت قد تعرفت على أحد رجال الصناعة من الإسكندرية اعتاد أن يتردد كثيرًا على السويس لأعمال تجارية، وحاول مرارًا وتكرارًا أن يشدني للعمل في شركته التي تعمل في الكيماويات، وما أن حانت الفرصة للقائه حتى سألته عما إذا كان العرض الذي قدمه لا يزال قائمًا أم لا، وسره سؤالي ورد بالإيجاب، وانتقلت معه إلى الإسكندرية، ولأول مرة منذ أن خرجت من شقة سامي منذ خمس سنوات مضت وجدت في هذا الرجل وأسرته بديلًا لأسرتي”
«اعتدت أنا وهدى أن نلتقي بين حين وآخر ونذهب معًا إلى السينما، وعرف رئيسي ذلك ولم يعترض، بل على العكس شجع علاقتنا وأفهمني أنه يرى في الابن الذي حرم منه، وحفزني هذا في المقابل على التفكير في إكمال تعليمي والانتساب إلى الجامعة، لكن القدر أراد لي شيئًا آخر، فبعد عيد ميلادي الثاني والعشرين بقليل طلب مني رئيسي في العمل السفر إلى فرع الشركة في القاهرة لأنه غير مطمئن إلى المدير هناك، وطلب مني أراجع عمله، وسافرت إلى القاهرة حاملًا معي هدايا لأختي وأبنائها، فحصت دفاتر الحسابات في فرع الشركة بالقاهرة، وراجعت كل شيء فيه، لم أجد أي شيء غير عادي، بل راجعت أيضًا رصيد النقدية، ووضعت الرصيد في الخزانة وأغلقتها دون أن أدري أن مدير الفرع معه مفتاح ثان للخزانة. واكتشفت في اليوم التالي ضياع مبلغ ألف جنيه مصري، وحيث أنني من الناحية الرسمية كنت الوحيد الذي يحمل المفتاح، فقد بات واضحًا أنني سرقت النقود، واتصل مدير الفرع برئيس الشركة في الإسكندرية وأبلغه أنه قد تم العثور على النقود في غرفتي بالفندق، وذلك محض كذب».
تورط «الجمال» في رحلته القصيرة إلى القاهرة، لكنه لم يهرب هذه المرة، وأوضح في مذكراته: «خجلت من جريمة لم أرتكبها وعدت إلى الإسكندرية، ولكن سرني أن رئيس الشركة قال لي إنه يصدقني، وإنني ضحية دهاء مدير الفرع، ولكن رئيس الشركة لم يستطع الإبقاء علي في وظيفتي تجنبًا لإجراء أي تحقيقات رسمية، ورتب لي فرصة الالتحاق بعمل جديد لدى صديق له يدير خطًا ملاحيًا، صدمت ولكن لم يكن أمامي خيارًا آخر، وبدأت عملي كمساعد لضابط الحسابات على سفينة شحن اسمها (حورس)، وبعد أسبوعين كنت على متن السفينة لأغادر مصر لأول مرة. طال سفرنا، وتقوقعت على نفسي غير مصدق أنني أبحر بعيدًا عما أردته لنفسي. توقفنا في نابولي وجنوة ومارسيليا وبرشلونة وجبل طارق وطنجة، ثم بعد ذلك وصلنا إلى ليفربول، وفي ليفربول أدخلت السفينة إلى الحوض الجاف، لعمل بعض الإصلاحات، وكان من المقرر أن تتجه بعد ذلك إلى بومباي، وحيث أنه كان من المقرر أن نظل وقتًا طويلًا في انجلترا، فقد بدأت مغامراتي لاستكشاف المنطقة داخل ليفربول وحولها، وذات ليلة وأنا في مرقص قابلت فتاة اسمها جودي موريس».
«ذكرتني ب(بيتي)، رقصنا معًا وقضينا أمسية رائعة، أحببتها ومارست معها كل ما تعلمته من بيتي، وقعت (جودي) في غرامي، رب بي أبوها، وعندما تهيأت (حورس) للسفر إلى الهند بكت (جودي) بحرقة، وتوسلت إلي ألا أسافر، ولم أكن أنا أيضًا متحمسًا للسفر إلى الهند، غير أنني لم أكن أريد أن أفقد وظيفتي، ولا أن أبقى في انجلترا بطريقة غير مشروعة، ولكن (جودي) أوضحت لي أن كثيرين من البحارة يضطرون إلى استئصال الزائدة الدودية، ومن ثم يتخلفون عن السفر، وينتظرون إلى أن تعود سفنهم مرة ثانية إلى ليفربول ليلتحقوا بها، وأخبرتني أن أباها يمكنه مساعدتي في الحصول على تصريح إقامة.
قالت وفعلت، وبدأت أعمل مع والد (جودي) في الميناء، بعد أن رتب لي تصريحًا بالعمل، وحين تأملت أحوال أسرتها وأحوالها وتدبرت أمري أيقنت أنها لا تصلح لي كزوجة، ولذلك، فإنه ما أن عادت (حورس) حتى ودعتها وصعدت إلى السفينة عائدًا إلى مصر، وكنت موزع الوجدان بين الإحساس بالسعادة والحزن، لم أجد لي أسرة أعود إليها، وقررت أن أترك البلاد ثانية بأسرع ما يمكن، عدت لأعمل مستخدمًا على متن سفينة تحمل العلم الفرنسي، وأبحرت بي لنصل بعد أربعة أيام إلى مارسيليا، وهناك نزلت في فندق في الميناء سيئ جدًا وصغير جدًا، واستثمرت إجادتي للفرنسية وسحري مع النساء وكل ما تعلمته من (بيتي)، وأفضى بي هذا إلى أن تشملني امرأتان عجوزتان برعايتهما وتتوليان أمري وتدفعان لي أجرًا مقابل صحبتهما والترفيه عنهما، وظننت أن الأسلوب الذي نجح معي في مارسيليا سوف ينجح.
ذهبت الى لندن وعملت هناك..كان اسم وكالة السفريات التي عملت بها (سلتيك تورز)، وكانت لدي أفكار لتطوير عملها، ذهبت في لندن لمقابلة الملحق المصري وأقنعته بأن يوكل إلينا هذا سفر الدبلومسيين المصريين، وعدت إلى ليفربول حاملًا في جيبي عقدًا مربحًا، وبلغت عمولتي عن هذه الصفقة 2000 جنيه إسترليني، وكانت هذه مجرد بداية، وفي أقل من خمسة أشهر تضاعف حجم عمل وكالة السفريات وزادت حصتي إلى 5000 جنيه وأودعتها في بنك أمريكان إكسبرس مقابل شيكات سياحية بنفس القيمة، واقترحت بعد ذلك على رئيسي أن أبذل نفس المحاولة مع السفارة المصرية في نيويورك، ووافق على الفور وحجز لي تذكرة سفر إلى نيويورك.
رحلتي لأمريكا فشلت، فسافرت إلى أوروبا في ألمانيا، وفي مطار فرانكفورت، قابلت فتاة شقراء عرضت علي مساعدتها، ولتأمين نفسي من المفاجآت، خبأت نقودي عندما ذهبت لقضاء ليلة معي في غرفتي بالفندق، وبالفعل وجدت النقود كما هي في صباح اليوم التالي، لكن الفتاة كانت قد اختفت ومعها جواز سفري، وبعد يومين أوقفتني الشرطة للتحقق من شخصيتي، واحتجزوني مؤقتًا في حجز قضائي، وأحالوني إلى القضاء، وأودعوني الحبس بتهمة الإقامة غير المشروعة، وصدر ضدي حكم بعد ثلاثة أشهر بدفع غرامة كنت قد استنفذت قيمتها خلال فترة احتجازي إلى حين المحاكمة، ورحلوني قسرًا على متن أول طائرة إلى القاهرة».
«عدت إلى القاهرة مرة ثانية في مايو 1951، ومعي مبلغ كبير من المال ولكن بدون جواز سفر، وتقدمت بطلب للحصول على جواز سفر جديد ولكن طلبي قوبل بالرفض، لأن القنصل المصري في فرانكفورت أرسل تقريرًا عن الحادث الذي وقع لي إلى القاهرة. وأصبح بلدي سجنًا كبيرًا بالنسبة لي، سعيت للحصول على جواز سفر جديد بشخصية جديدة، وحصلت بالفعل على جواز سفر بريطاني باسم (دانييل كالدويل)، واكتشف ضابط انجليزي التزوير وانتهى بي المطاف في أحد أقسام الشرطة في الإسكندرية. أخذ الضابط البريطاني جواز سفري المزور، وهو الشيء الوحيد الذي كان يعنيه وأرسله للتدقيق والمراجعة، ورحلوني إلى القاهرة، وبدأ كل شيء دورته من جديد، استجوبوني ولم أجب، وبقيت في الحجز عدة أيام، وذات يوم أحضروني إلى أحد المكاتب، وتوقعت المزيد من الاستجواب. رأيت في انتظاري رجلًا ضخم البنية، يوحي بالجدية، يرتدي ملابس مدنية، هادئ الصوت في ود حين يلقي أوامره.
وجه كلامه للحارس الذي اصطحبني قائلًا: يمكن أن تتركنا الآن وحدنا.
واتجه ناحيتي وطلب مني الجلوس، جلست وفي داخلي قلق حقيقي يسيطر علي مزاج عنيد وملل وضيق مما سيأتي، فقد سئمت وضقت ذرعًا من القيود التي وضعوني فيها، وعندما قدم لي الجالس قبالتي سيجارة ثنيت يدي في هدوء فانسلتا خارج القيد الحديدي، تردد الرجل لحظة، ولكنه لم ينطق بشيء، ولم يستدع الحارس، جلس خلف مكتبه، الذي أجلس قبالته، وقد رسم على شفتيه ابتسامة وهو يتطلع إلي»
«قدم لي نفسه قائلًا: اسمي حسن حسني من البوليس السياسي.
قفزت إلى رأسي علامة استفهام كبير: ما علاقتي أنا بالبوليس السياسي؟ إن المباحث الجنائية هي وحدها المسؤولة عن الجرائم التي يحاولون اتهامي بها.
استطرد الرجل قائلًا: لا أستطيع أن أخاطبك باسمك لأنني لا أعرف أي اسم استخدمه من أسمائك الثلاثة، يجب أن تعرف أن قضيتك صعبة جدًا، ليست المسألة خطورة جرائمك، بل لأننا ببساطة لا نعرف من أنت، إن الثورة في بلدنا لا تزال حديثة العهد، بلا خبرة أو استعداد، ونحن لا نستطيع إصدار وثائق إثبات الشخصية للجميع لأننا لا نملك الوسائل اللازمة ولا العاملين اللازمين لذلك، وكما ترى فإنني صريح معك، وحيث أنك حتى هذه اللحظة مجرد مشتبه فيه، فالواجب يقضي بأن لا تبقى في الحجز أكثر من يومين، بعد هذا لابد من عرضك على قاض أو إطلاق سراحك، ولكن يجب أن نتحفظ عليك حتى تفصح لنا عن حقيقة هويتك، نحن في ثورة ولسنا على استعداد لتحمل أي أخطاء في هذه المرحلة.
أنصت إليه بانتباه محاولًا تصور ما يرمي إليه.
واستطرد قائلًا: أود أن أغلق قضيتك. لا يوجد أي بلاغ عن سرقة جواز سفر بريطاني باسم دانييل كالدويل، ولا أستطيع أن أفسر كيف ظهر في ملفك إنك يهودي اسمك ديفيد آرونسون، ثم إن رفعت الجمال لا توجد اتهامات ضده ولا أبلغ هو عن سرقة أي شيكات سياحية، سأدعك تخرج إلى حال سبيلك شريطة أن أعرف فقط من أنت على حقيقتك، والآن ما هو قولك؟
– ألا تريد أن تخبرني لماذا أنت مهتم بي؟ واضح إنني لست هنا بسبب اتهام ما
– أنا معجب بك، إجابتك أسرع مما توقعت.
تصورت أنه ما دام من البوليس السياسي، وهو ما أصدقه، فليس من المنطقي أن يعرفني باسمه مع أول اللقاء، إلا إذا كان على يقين من أمري.
استطرد قائلًا:
– أنا مهتم بك، فقد تأكد لنا أنك قمة في الذكاء والدهاء، لقد أثرت حيرة المسؤولين إزاء ما ظهرت به حتى الآن، قد تكون إنجليزيًا، أو يهوديًا، أو مصريًا، غير أن ما أثار اهتمامي كثيرًا بشأنك هو أن أحد رجالنا الذين دسسناهم بينكم في حجز الإسكندرية أفاد بأن جميع النزلاء اليهود الآخرين اعتقدوا عن يقين أنك يهودي.
دهشت للطريقة التي يعملون بها، لقد وصل بهم الأمر إلى حد وضع مخبرين داخل السجن للتجسس على الخارجين على القانون.
وواصل حسن حسني حديثه قاصدًا مباشرة إلى ما يرمي إليه فقال:
– يجب التزام الحذر، أعداء الثورة في كل مكان ويريدون دفع مصر مرة ثانية إلى طريق التبعية للأجانب وكبار الملاك الزراعيين، بيد أن هذا موضوع آخر، فأنت كإنجليزي لا يعنيك هذا في كثير أو قليل، وأنا على يقين من أنك لا تضمر كراهية للشعب المصري.
انفجرت فجأة قائلًا:
– هذه إهانة أنا مصري، وحريص كل الحرص على مصر وشعبها.
صحت وصرخت بأعلى صوتي لهذه الإهانة التي وجهها لي ما أن انتهيت من ثورتي الغاضبة حتى أشعل سيجارة وابتسم ابتسامة المنتصر، وعندئذ عرفت أنني وقعت في المصيدة التي نصبها لي، عرفت أنه انتصر علي، فقد استفزني إلى أقصى الحدود ليجعلني أظهر على حقيقتي، واستطاع ببضع كلمات عن أعداء مصر أن يجعلني أكشف الستر عما أخفيته.
– رفعت أنا فخور بك، أنت مصري أصيل، أطلب منك أن تخبرني شيئًا واحدًا وبعدها سأعترف لك بالسبب في أنك هنا، وفي أني مهتم بك أشد الاهتمام، كيف نجحت في جعل اليهود يلقبونك يهودي؟
– هذه قصة طويلة، وأنا واثق من أنك لا تريد سماعها.
– جرب عندي وقت طويل.
– وفيما يهمك هذا؟
– لأنني بحاجة إليك، وعندي عرض أريد أن أقترحه عليك.
ربما كنت انتظر هذه اللحظة، إذ سبق لي أن عشت أكاذيب كثيرة في حياتي، وبعد أن قضيت زمنًا طويلًا وحدي مع أكاذيبي، أجدني مسرورًا الآن إذ أبوح بالحقيقة إلى شخص ما. وهكذا شرعت أحكي لحسن حسني كل شيء عني منذ البداية، كيف قابلت كثيرين من اليهود في استوديوهات السينما، وكيف قلدت سلوكهم وعاداتهم من منطلق الاهتمام بأن أصبح ممثلًا.
بعد أن فرغت من كلامي اتسعت ابتسامة حسني أكثر مما كانت وقال لي:
– رفعت الجمال، أنت إنسان مذهل، لقد اكتسبت في سنوات قليلة خبرة أكبر بكثير مما اكتسبه شيوخ على مدى حياتهم، أنت بالضبط الشخص الذي أبحث عنه، يمكن أن نستفيد منك استفادة حقيقية.
– ما الذي تريدني من أجله.
– كما قلت لك من قبل هناك مشكلات خارجية كثيرة تواجه مصر، وتوجد في مصر أيضًا رؤوس أموال ضخمة يجري تهريبها، والملاحظ أن كثيرين من الأجانب، وخاصة اليهود، هم الذي يتحايلون لتهريب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد. يمكنهم تحويل مبالغ بسيطة فقط بشكل قانوني، غير أنهم نظموا فرقًا تخطط وتنظم لإخراج مبالغ ضخمة من مصر، واليهود هم الأكثر نشاطًا في هذا المجال.
إن إسرائيل تأسست منذ خمس سنوات مضت، وهناك كميات ضخمة من الأموال تتجه إليها، ونحن ببساطة لا نستطيع تعقب حيلهم، ومن ثم فنحن نريد أن نغرس بينهم شخصًا ما، يكتسب ثقتهم ويطمئنون إليه، وبذا يكتشف حيلهم في تهريب أموالهم إلى خارج البلاد، كما يكشف لنا عمن وراء ذلك كله. نريد أن نعرف كيف تعمل قنوات النقل التي يستخدمونها وكل شيء آخر له أهمية وأنت الشخص المثالي لهذا العمل، الشخص الذي نزرعه وسطهم لابد وأن يكون يهوديًا، ولقد استطعت إقناعهم بأنك كذلك، ما رأيك؟ هل أنت على استعداد لهذه المهمة؟
حدقت فيه كأنه نزل إلي من السماء، لم أشعر بالاطمئنان، ولم تكن لدي فكرة عما أنا مزمع عمله. أوضح لي أنني أفضل فرس رهان بالنسبة له، وأضاف أنهم سوف يتولون تدريبي وإيجاد قصة جيدة الإحكام لتكون غطاء لي، ثم يضعوني وسط المجتمع اليهودي في الإسكندرية.
سألته: – وماذا يعود علي أنا من هذا؟
رد: – سيتم محو ماضي رفعت الجمال تمامًا، ويجري إسقاط جميع الإجراءات القضائية الأولية لإقامة دعاوى ضدك بسبب جوازات السفر المزورة، والبيانات الشخصية عن علي مصطفى وشارلز دينون ودانييل كالدويل، وأي أسماء أخرى سبق لك أن استعملتها، كما سيتم إسقاط أي اتهامات أخرى ضدك، وسوف تستعيد قيمة شيكاتك السياحية، أو تكتب بالاسم الذي تتخذه لنفسك وتعيش به كيهودي، هل نعقد الصفقة معًا؟.
عدت لأسأله:
– هل لي حق الاختيار؟
رد:
– من حيث المبدأ لك الخيار، فإذا كنت قد اعتدت على حياة السجن، فمن المؤكد أنك تستطيع اختيار هذا لأن السجن سيكون هو مكانك ومآلك زمنًا طويلًا ما لم تسقط الاتهامات ضدك.
جلست في مكاني أفكر في الفرص المتاحة لي، مدركًا ألا خيار آخر أمامي إذا لم أشأ دخول السجن، لقد أوقع بي حسن حسني حيث أراد لي، ولا حيلة لي إزاء ذلك. وقفت وبسطت يدي لأصافحه موافقًا وأنا أقول له:
– حسنا، أظنك أوقعت بي حيث تريد لي أن أكون، إذن لنبدأ.
أجاب وعلى شفتيه ابتسامة:
– أنا سعيد جدًا أن أسمع هذا منك».
وافق رفعت الجمال على العرض الذي تلقاه من ضابط البوليس السياسي، حسن حسني، ليصبح عميلًا للجهاز الأمني داخل الطائفة اليهودية، لمعرفة كيفية تهريبهم للأموال خارج مصر، ويروي ما حدث معه بعد ذلك في مذكراته قائلًا: «وبدأت فترة التدريب مكثف. شرحوا لي أهداف الثورة وفروع علم الاقتصاد، وتعلمت سر نجاح الشركات متعددة القوميات، وأساليب إخفاء الحقائق بالنسبة لمستحقات الضرائب، ووسائل تهريب الأموال، وتعلمت بالإضافة إلى ذلك عادات اليهود وسلوكياتهم، وتلقيت دروسًا مكثفة في اللغة العبرية كما تعلمت تاريخ اليهود في مصر وأصول ديانتهم، وعرفت كيف أميز بين اليهود الأشكيناز (من شرق أوروبا) والسفارد (من إسبانيا والبحر المتوسط)، والشازيد (من طائفة اليهود الحسينيين الذين نشأوا في بولندا وأوكرانيا وغيرها).
حفظت عن ظهر قلب، الشعائر اليهودية وعطلاتهم الدينية حتى أنني كنت أرددها وأنا نائم، وتدربت أيضًا على كيفية البقاء على قيد الحياة معتمدًا على الطبيعة في حالة إذا ما اضطرتني الظروف إلى الاختفاء فترة من الزمن. وتدربت بعد هذا على جميع عادات الشرطة السرية للعمل بنجاح متخفيًا، وأخيرًا تقمصت شخصيتي الجديدة، وأصبحت منذ ذلك التاريخ جاك بيتون، المولود في 23 أغسطس عام 1919 في المنصورة، من أب فرنسي وأم إيطالية، وأسرتي تعيش الآن في فرنسا بعد رحيلها من مصر، وهي أسرة كانت لها مكانتها وميسورة الحال، وديانتي هي يهودي أشكينازي، وتسلمت وثائق تحمل اسمي الجديد والتواريخ الجديدة».
وخرجت إلى العالم بهذه الشخصية الجديدة، وعثرت في الإسكندرية على شقة صغيرة جميلة في منطقة يكثر بها اليهود، وحصلت على وظيفة كاتب في إحدى شركات التأمين، ورويدًا رويدًا تزايدت ثقتي بنفسي وزالت مخاوفي وبدأت (أقتنع) بأنني يهوديًا.
وبعد فترة قصيرة قابلت ليفي سلامة، الذي زاملته في زنزانة السجن وقتما كنت نزيلًا به في فترة سابقة باسم ديفيد آرونسون. حياني كصديق قديم واصطحبني وقدمني إلى أصدقائه، وعلى الرغم من حذري إلا أنني كنت على يقين من أنه صدقني وسلم بأن هذه هي حقيقتي، وبذا كان مفتاحي إلى قلب الطائفة اليهودية، وحيث أنني لم أكن قد قلت له اسمي قبل ذلك، فلم أجد مشكلة في تقديم نفسي له باسم جاك بيتون.
وبعد ثلاثة أيام من لقائنا قابلني بعد انتهاء العمل وقدمني إلى امرأة شابة تدعى (مارسيل نينو) كانت في زيارة إلى القاهرة.
وكان واضحًا في ضوء ما تعلمته في السابق أن القصد من اللقاء هو أن تتفحصني بدقة نيابة عن ليفي سلامة وأصدقائه، وحيث أنني كنت أعرف الهدف جيدًا من اللقاء، فقد اجتهدت وسارت الأمور على ما يرام.
كانت (مارسيل) امرأة جذابة، ومن ثم لعبت عليها وبدأت علاقة معها. جذبت كل الخيوط التي أعرفها، وسرعان ما كسبتها في صفي، وقدمتني لرجل كان يعمل لحساب نفس المجموعة. كان اسمه إيلي كوهين، أبواه من سوريا ولذا كان يتحدث العربية بلكنة سورية، وهو يهودي وعضو له مكانته وسط الطائفة اليهودية في المدينة.
وبالطبع، كنت أبلغ حسن حسني بانتظام بكل ما أتوصل إليه من معلومات، حاولت أن أتعقب (سلامة) لأكتشف قنوات نشاطه وأسلوب عمله. جاهد للتمويه عليّ غير أنني في النهاية ظفرت به، عرفت أن التنظيم يرأسه رجل أعمال انجليزي من سويسرا، اسمه جون دارلينج، وتلقيت من حسن حسني مبلغًا كبيرًا من المال لأسلمة إلى (سلامة)، نجحت الخطة، ووضع حسن حسني (سلامة) تحت المراقبة، وتم القبض على كل المنظمة متلبسة في مصر، ولم يكتشف أحد أمري وقمت بدور الضحية، إذ بدوت في صورة شاب خسر ثروته بسبب (سلامة).
نجح الغطاء الذي اتخفى تحته، وتلقيت تعليمات للتأكد من حقيقة إيلي كوهين. أصبحنا صديقين بمرور الزمن، ووثق بي (كوهين) وقال لي الكثير من أسراره.
اكتشفت أنه نشيط جدًا في مناهضة البريطانيين، وأنه يساعد اليهود على الهجرة من مصر إلى إسرائيل، وعرفت أنه عضو نشيط لحساب مجموعة (العالياه بيت) المسؤولة عن تنظيم عمليات الهجرة إلى إسرائيل.
وخلال هذه الفترة كانت المخابرات العسكرية السرية الإسرائيلية (الأمان) قد بدأت تنشط داخل مصر، وكان الكولونيل أفراهام دار على رأس الوحدة الخاصة التي أنشأتها في مصر للشروع في سلسلة من الأعمال التخريبية ضد المؤسسات الأجنبية لتبدو الأحداث في صورة أعمال إرهابية يرتكبها الوطنيون المصريون، وتم تجنيد (كوهين) ضمن هذه المجموعة، وبناء على أوامر من حسن حسني عمدت إلى إقناع (كوهين) بضمي إلى هذه المجموعة أيضًا.
وحضر حسن حسني بنفسه إلى الإسكندرية لكي يسمع مني معلوماتي، وما أن وصلت إلى النقطة الخاصة باجتماعنا السري حتى وجدته بصحبة رجل آخر.
عرفنا ببعضنا، كان هذا الرجل هو (علي غالي)، المسؤول في مصر عن نشاط الجاسوسية والجاسوسية المضادة، وحيث أن مهمتي الآن أصبح لها طابع دولي، فقد أصبح (غالي) مسؤولًا عني، إذ كان حسن حسني مسؤولًا فقط عن القضايا الداخلية.
شكرني (حسني) على جهودي حتى الآن، وتركني مع علي غالي وحدنا. قال لي (غالي) إنه فخور بجهدي حتى الآن، ويريدني أن أبقى على العهد وأكون عند حسن الظن. وأخبرني أن الاستعدادات تجري لتوسيع نشاط جهاز المخابرات المصري، وأضاف أنني الآن أصبحت واحدًا من عملائه، ويتوقع مني أن أستمر في عملي مثلما كنت في السابق.
كنت ضمن مجموعة كولونيل أفراهام دار، ومعي إيلي كوهين، ونظرًا لوجود مجموعات مماثلة لهذه المجموعة في البلدان العربية الأخرى، فقد أطلق على التنظيم الموجود في مصر اسم (الوحدة 131)».
واكتشفت في هذه الأثناء أن ماكس بينيت، الشخصية البارزة في دوائر اليهود المصريين من أعضاء المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) ، وأن (بينيت) على اتصال كذلك بالوحدة (131)، وأنه نشيط جدًا، وأن (الوحدة 131) خططت للعديد من عمليات تفجيرات القنابل الكبرى في القاهرة والإسكندرية على أساس أن يتم تنفيذها في يوليو 1954.
أبلغت (غالي) بكل شيء وبأماكن وجود أعضاء (الوحدة 131) ليلة الحادث. كانوا قد وضعوا القنابل في المواقع المحددة لها، ولكنها لم تنفجر، وألقي القبض على 14 عضوًا من أعضاء (الوحدة 131) وتم القبض على ماكس بينيت في بيته، واعتقلوني أيضًا، حيث كنت مع إيلي كوهين في نفس الليلة، ولم يشأ (غالي) أن تنكشف حقيقتي.
وأطلق سراحي أنا وإيلي كوهين، حيث أننا لم نكن عضوين لهما حيثية تذكر، ولم يكن هناك ما يديننا، وتلقينا إنذارًا بالطرد من البلاد في حالة وقوع أي اعتداء آخر. وأدى اعتقال ماكس بينيت وتدمير (الوحدة 131) إلى وضع نهاية مفاجئة لنشاط التجسس والتخريب الإسرائيلي في مصر خلال تلك الفترة.
طلبوا مني العودة إلى القاهرة لكي أقابل علي غالي، وحين وصلت لم يشأ الرجل أن يضيع وقتًا، ودخل في الموضوع مباشرة، وقال:
– جاك نحن فخورون بك ولكن لسوء الحظ لا نستطيع أن نخبر أي إنسان بما أسديته لبلدك، لأننا لا نريد أن نكشف الغطاء المحكم الذي تتخفى وراءه، ونود أن نستفيد بك أكثر من ذلك في الخارج.
صدمت وصحت قائلًا بأعلى صوتي: – في الخارج، ما هو المطلوب مني هناك؟
رد:– نفس الشيء الذي فعلته هنا، وتستطيع بمساعدتهم أن تغير اتجاهك إلى إسرائيل عن طريق إيطاليا، ومن هناك يمكنك أن تزودنا بمعلومات قيمة.
– إذا كنت تعتقد أنني قادر على أداء المهمة فإني لها.
بعد التدريب تحددت لي مهمة، قرر أن أكون وكيل مكتب سفريات حيث أن هذا سيسمح لي بالدخول إلى إسرائيل والخروج منها بسهولة، وتقرر أن أؤدي اللعبة لأطول مدة ممكنة، وتسلمت مبلغ 3000 دولار أمريكي لأبدأ عملي وحياتي في إسرائيل، وفي يونيو 1956 استقليت سفينة متجهة إلى نابولي قاصدًا في الأصل أرض الميعاد، ودعت مصر دون أن أدري ما سوف يأتي به المستقبل».
– أدون جاك بيتون؟
تلفت حولي ووجدتني قبالة رجلين يبدو أنهما أوروبيان تمامًا، قال الرجل الواقف إلى اليمين:
– أنا برونو شتينبرج، وهذا هو روبرت جيزيل.
– طالما أنكما تعرفان اسمي، فهل لي أن أسألكما ماذا يمكن لي أن أفعله من أجلكما؟
– لا، لا يوجد ما تستطيع أن تقدمه لنا، بل ما الذي نستطيع نحن أن نقدمه لك. نحن من الوكالة اليهودية ونرحب بك في نابولي، ونحن هنا لمساعدتك في كل ما تحتاج إليه.
– معي كل ما أحتاج إليه، شكرًا.
وكان سؤالهما الثاني:– هل لنا أن نسألك عما تعتزم عمله الآن، وإلى أين تريد أن تذهب من هنا؟
– لا أدري بعد، غير أنني أريد التوجه إلى فرنسا حيث أن لي أسرة هناك.
– ألم تفكر في التوجه إلى إسرائيل؟
– وما حاجتي للذهاب إلى هناك؟
قلت لهما إنني بحاجة إلى أن أفكر في هذا وسوف أخبرهما، تركاني وشأني ليلًا حيث ذهبت للنوم مبكرًا، وعادا في صباح اليوم التالي، وحجزا لي تذكرة مدفوعة الثمن للسفر بحرًا إلى إسرائيل على أول سفينة متجهة إلى هناك.
« اخترت تل أبيب حيث كانت العاصمة، وتم حصر ما معي من نقود أجنبية وتسجيلها، ثم أصبحت طليقًا أذهب حيث أشاء، تمشيت عبر الميناء وتعجبت لماذا سارت الأمور هكذا في سلاسة، ربما كانوا على علم مسبق بقدومي وأرادوا فقط أن أشعر بالاطمئنان قبل أن يتدخلوا، كانت هذه الأفكار تدور في رأسي بينما أسير متجولًا باحثًا عن سيارة أجرة.
رأيت في مواجهتي رجلًا ضخما.. قال
– أنا سام شواب، وقد أرسلوني لتحيتك في إسرائيل ومساعدتك في أي شيء قد تحتاج إليه. نحن نعرف أنك عضو في (الوحدة 131) وأنه لشرف لي أن أقابلك، نحمد الله أن نجحت في الخروج من مصر. أهلًا بك في وطنك يا أدون جاك بيتون.
هيأ لي سام شواب غرفة في فندق أنيق واصطحبني في جولة داخل المدينة. أفادني كثيرًا إذ حصلت بفضل مساعدته على شقة مؤثثة في تل أبيب بعد أسبوع من وصولي، وأشار علي باسم محام أنجز لي جميع الترتيبات الضرورية للشروع في عملي، كما جمعني مع الدكتور وايز، الذي وافق على أن نكون شركاء في العمل.
كان الدكتور وايز مقيمًا في إسرائيل منذ النشأة الأولى، وبفضله سار عملنا منذ البداية سيرًا حسنًا. كان يكبرني بعشر سنوات، رقيق الحاشية، ذكي واسع الاطلاع، له كثير من الاتصالات المفيدة. وعثرنا على مكان لمكتب السفريات الذي أقمناه في شارع برينر رقم 2 وسط المدينة في تل أبيب وكان اسمه (سي تورز)، واستأجرنا سكرتيرة، امرأة متزوجة كبيرة السن، وكان من المهم جدًا أنها متزوجة، إذ تعلمت أثناء تدريبي مدى خطر الوقوع في حب امرأة موجودة في محيط عملك طوال اليوم.
أفادني سام شواب في هذا كثيرًا جدًا، إذ قدمني للكثيرين من العاملين لحساب الحكومة وتعارفنا، وذات مساء خرجنا سويًا وعرفني بموشيه ديان، وشعرت بنشوة غامرة لهذا، ذلك أن (ديان) شخصية هامة جدًا، ولأني أدركت أنه بمرور الوقت سوف أستطيع الحصول على كم هائل من المعلومات عن طريقه. بدأت أبدي اهتمامًا بسياسة إسرائيل، وأعجب (ديان) باهتمامي هذا ورغب في تعليمي الكثير، وعرفت من خلال (شواب) مختلف أجهزة المخابرات ومجالات نشاطها. هناك جهاز الشين بيت الخاص بالأمن الداخلي حيث يعمل (شواب)، وجهاز الموساد وجهاز الأمان.
وعن طريق (ديان) قابلت عزرا وايزمان، وهو أيضًا من كبار الشخصيات داخل الجيش فضلًا عن أنه كان قائدًا متميزًا للطائرات المقاتلة.
وذات مساء ونحن في النادي عرفني سام شواب بامرأة جذابة اسمها راكيل أبشتين، وبدى
واضحًا أنه يحاول سبر أغواري أكثر عن طريقها، تصور أن بإمكاني أن أقع في حبائل امرأة وأحكي لها كل شيء. عرفت نواياه والتزمت بقواعد اللعبة. كانت (راكيل) فاتنة وتعمل مدرسة، نشأت في ألمانيا وعلمتني الكثير من اللغة الألمانية، وحرصت على ألا تحصل مني على شيء تفيد به (شواب)، وعندما اطمأن منها وثق هو بي وتأكد من أنني يهودي وإسرائيلي حقًا.
وعرضت عليه استعدادي لأن أعد جميع الترتيبات اللازمة لسفر زملائه إذا ما أرادوا السفر عن طريق مكتب السفريات الخاص بي.
ومن هنا حصلت على حجم عمل كبير من موظفي الحكومة، قمت لهم بأعمال شراء التذاكر والحجز… إلخ، وبدأت تنهال علي بانتظام الدعوات لحضور الحفلات أو لتناول العشاء حتى يكسبوني إلى صفهم ويضمنون الحصول على التخفيضات والخدمات اللازمة، وأفادني هذا كله فائدة جمة، إذ حصلت عن طريقه على معلومات كثيرة استطعت أن أبلغها إلى رؤسائي بالشفرة. «حان الوقت لأول رحلة عمل رسمية أقوم بها خارج إسرائيل. سافرت في أكتوبر 1956 إلى روما للتفاوض بشأن سفر مجموعة من السياح إلى إسرائيل. وبعد يومين والعديد من الإجراءات الاحترازية لتضليل أي عناصر يحتمل أن تتعقبني، سافرت إلى ميلانو حيث التقيت برئيسي المباشر، وهو المسؤول عن فريق المخابرات المصرية العامل في وسط أوروبا، حيث أبلغته أن إسرائيل عقدت اتفاقًا سريًا مع فرنسا حصلت بموجبه على أسلحة ثقيلة ومعدات عسكرية.
وعندما عدت حصرت اهتمامي لكسب ثقة موشي ديان وعزرا وايزمان وسام شواب. أحسست أن ثمة شيئًا هامًا يوشك أن يحدث، وعن طريق (ديان) قابلت جولدا مائير وبن جوريون. أظهرا كلاهما ودًا شديدًا نحوي، وسرعان ما تعاملا معي مثل (ديان). وأفادني هذا في مهمتي فائدة كبيرة للغاية، وقد حرصت أشد الحرص على أن أكسب أي موقع في الصدارة يمكن الوصول إليه.
كنت حذرًا غاية الحذر، ومن ثم قضيت أطول وقت ممكن مع (ديان) و(شواب)، واكتشفت أن إسرائيل تخطط لعملية عسكرية خاصة بشبه جزيرة سيناء، أعطتها الاسم الشفري (قادش) بهدف تدمير وإضعاف القوة العسكرية المصرية قدر المستطاع.
وفي هذه الأثناء كانت مصر تتفاوض مع سوريا والأردن ظنًا منهم أنه إذا ما وقع هجوم إسرائيلي فسوف يكون ضد الأردن. وفي اللحظة التي عرفت فيها أمر الخطة رتبت أموري لمغادرة إسرائل وإبلاغ رئيسي أن إسرائيل تخطط فعلًا لتوجيه ضربة إلى مصر، وهكذا عدت مرة ثانية إلى روما، واتخذت الخطوات اللازمة لتأمين نفسي، وسافرت إلى ميلانو لمقابلة رئيسي.
فوجئ بي حين رآني، ولكن بعد أخذ ورد، وافق على أن يستمع لي، لم يصدقني، وقال إن إسرائيل ستوجه الضربة إلى الأردن، وأن جميع الدلائل تشير إلى هذا الاتجاه. استبد بي الضيق ورجوته أن يصدقني، وأكدت له أن إسرائيل ستعطي لفرنسا المبرر للتدخل، ومن ثم تستطيع فرنسا أن تسيطر على قناة السويس.
وبعد مناقشات طويلة أخذ كلامي مأخذًا جادًا، وقال لي إنه سيسافر إلى القاهرة فورًا ويبلغهم بمعلوماتي التي توصلت إليها. عدت إلى إسرائيل وعرفت أنباء الحرب من هناك، ولست أدري لماذا لم تأخذ مصر تحذيري بصورة جدية. لابد وأنهم لم يصدقوني ووقع المقدور. أحسست بالصدمة، لماذا صموا آذانهم عن كلامي؟ كان (عبدالناصر) يستطيع على الأقل أن يرد الرد المناسب في وقت مبكر. ومع ذلك وكما يقول التاريخ، فقد حول الهزيمة العسكرية إلى نصر سياسي.
«في مايو 1958 وقع الاختيار على مكتبي السياحي لإقامة جسر للنقل الجوي من بيروت إلى إسرائيل. كانت إسرائيل قد قررت إخراج اليهود اللبنانيين من لبنان، ومن ثم عمدت إلى الاتفاق معي لتنظيم رحلات جوية من بيروت إلى إسرائيل. وقررت أنا وشريكي تنظيم العملية بالاتفاق مع شركتي طيران (لوفوتهانزا) الألمانية، وشركة طيران أوليمبيك اليونانية. وواتتني الفرصة مرة أخرى لمغادرة البلاد رسميًا.
ذهبت ثانية إلى روما لمناقشة مسائل العمل مع الوكالة اليهودية فيما يختص بعمليات النقل من لبنان. وذهبت كما هي العادة من هناك إلى ميلانو.
ركزت اهتمامي على صفقة الجسر الجوي الخاص بلبنان وسارت الأمور سيرًا حسنًا. حققنا مكاسب كبيرة ومضت العملية في سلاسة ويسر.
ونظرًا لصلة (ديان) الوثيقة ب(بن جوريون)، فقد استطعت أن أكسب ثقة (بن جوريون) أيضًا، وأصبحت عضوًا في مجموعة الشباب المحيطين به، إذ كان يحب أن يحيط به الشباب ويستمع لآرائهم وأفكارهم، أما جولدا مائير فكانت تتميز بأنها امرأة عطوف، وأبدت ودًا شديدًا نحوي، وكثيرًا ما تساءلت بيني وبين نفسي ماذا عساهم أن يقولوا عني لو اكتشفوا حقيقتي وعرفوا أني استخدمتهم».
«كان الموضوع الهام الذي استطعت أن أبلغه إلى ميلانو هو أن إسرائيل تبني مفاعلًا نوويًا، وسرعان ما شاع الأمر، غير أن إسرائيل أنكرت اعتزامها إنتاج أي أسلحة ذرية، وعمدت إلى عكس الموضوع واتهام مصر بإجراء تجارب على الكوبالت، وإن كان بمقادير ضئيلة جدًا لم تسبب تفاعلًا ضخمًا. وتصاعد الضغط الدولي ضد إسرائيل، ومن ثم أرجأت فكرة إجراء تجارب على الأسلحة الذرية، ومن ثم إقامة المفاعل النووي. واستطعت، علاوة على هذا، أن أبلغ رؤسائي بأن ألمانيا تدرب العسكريين الإسرائيليين على استخدام أسلحة ذات مستوى تكنولوجي راق.
وحدث في تلك الأثناء أن تم القبض على عملاء كثيرين من الجانبين، وكلما وقعت مثل هذه الأحداث تملكني إحساس مزعج.
قررت أن أفاتح رئيسي في ترك العمل، خاصة وأنه لم يكن هناك شيء بالغ الأهمية يجري على الساحة، قيل لي إن بإمكاني أن أترك مهمتي شريطة أن ننجز هذا تدريجيًا، فليس بإمكاني أن أغادر إسرائيل وأعود إلى مصر هكذا ببساطة، إذ سيعثر علي الموساد وسيكون في هذا نهايتي.
وفي أكتوبر 1963، سافرت إلى ألمانيا وزرت صديقي القديم هورست سومر، الذي سبق لي أن قمت معه ببعض الأعمال في مناسبات مختلفة، وأفضى إلي بأنه سيخرج في المساء مع صديقته هيلجا، وقال إن بإمكانها أن تحضر معها إحدى صديقاتها، ووافقت، حيث أنني كنت أعرف أن (هورست) حسن الذوق، فقد توقعت أن ألتقي بسيدتين جذابتين جدًا. وبالفعل كانت الفتاتان من عالم آخر، كانت صديقة (هورست) حسناء، أما أنت يا (فالتراود) فكل ما أستطيع قوله عنك إني وجدتك رائعة إلى حد لا يصدق، وقعت في غرامك منذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيني عليك.
لم أكن قاصدًا فيينا بل ميلانو. أردت أن أحدث رئيسي عنك، وأن يستوضح أمرك ويعطيني موافقته بشأنك. ووافق رئيسي في ميلانو على أن يتحقق من أنك لا تعملين لحساب الموساد أو المخابرات الألمانية، واستغرق بحث ذلك عشرة أيام حتى تأكدنا منك. وفرحت بالنتيجة فرحة صبي صغير في عيد ميلاده. عدت على الفور إلى فرانكفورت وفوجئت أنت بعودتي.
وتذكرين أن موشيه ديان نفسه أتى إلى البيت ليقابلك ليرى بنفسه (الغلطة التي ارتكبتها)، وكنت أضحك أنا و(ديان) مرات ومرات كلما فكرنا فيما حدث، فلقد أخبرني بأنك عندما رأيتيه لأول مرة ارتسمت على وجهك تعبيرات غريبة مضحكة.
وعشنا وقتًا طيبًا في إسرائيل، واصطحبتك في جولات لتشاهدي البلد والمدن. وأرسلت في هذه الأثناء بطاقات بريدية إلى (أسرتي) في فرنسا. ولم يكن هذا سوى روتين لإبلاغ ما لدي من معلومات، ولعلك تفهمين الآن لماذا لم أصطحبك يومًا لمقابلة (أسرتي) في فرنسا. واعتدت كلما سألتينني عنهم أن أقول لك إن علاقتي بهم سيئة.
ومضت بنا الأيام ولا شيء يبهجني في حياتي سواك. بقينا في إسرائيل حتى آخر ديسمبر 1963 ثم سافرنا إلى ألمانيا لقضاء بعض الوقت مع (أندريا) وأبويك.
«وعدنا إلى إسرائيل في أوائل يناير 1964. قدمتك إلى جولدا مائير وأحبتك كثيرًا، ثم اصطحبتك في زيارة إلى (بن جوريون) في الكيبوتز الخاص به.
لم يناول نقاشنا شيئًا له أهمية كبيرة، ولكن كان لابد وأن أكون متابعًا لمسرح الأحداث. وسافرت في فبراير إلى فرنسا بشكل رسمي، ولكنني في الحقيقة اتجهت إلى لندن لمقابلة رئيسي لأبلغه بآخر التطورات، فعلاوة على تقريري المكتوب عن التعاون الألماني الإسرائيلي، توفرت لدي تفصيلات جديدة عن الدعاوى الإسرائيلية بشأن مياه نهر الأردن التي تتنازعها سوريا وإسرائيل.
وبعد فترة قصيرة من سفر والديك زرت الطبيب وعدت بأنباء عن الوليد المنتظر، غمرتني الفرحة والسعادة، كان هذا أجمل نبأ تلقيته، قفزت هنا وهناك مثل صبي صغير ولم أصدق أن حظي قد تحسن بهذا القدر، لكني لم أشأ أن يولد ابني في إسرائيل، وأقنعتك بأن تضعي حملك في ألمانيا، لعلك أدركت الآن أيضًا لماذا لم أشأ أن يحصل ابني على جنسية إسرائيلية، وهذا جعلك تضربين أخماسًا في أسداس، غير أنني مصري من صميم قلبي، ولم أكن أريد لابني أن يحمل جنسية إسرائيل.
كنت قد عقدت العزم عند زواجنا على أن أتقدم بطلب للحصول على الجنسية الألمانية، ومن ثم يحصل الطفل عليها بالتبعية، ومن ثم انتهينا إلى نتيجة هي أن الأفضل أن تسافري أنت وأندريا فورًا إلى ألمانيا، وسوف أتنقل جيئة وذهابًا بين تل أبيب وفرانكفورت، إلى أن يتسنى لي تصفية أعمالي، واضطررت أيضًا إلى الانتظار فترة أطول قبل أن أغادر إسرائيل نهائيًا حتى لا أثير الشكوك.
الآن تحررت من أعبائي بحيث أصفي آخر متعلقات مهمتي وأخرج من عرين الأسد.
وجاء ميلاد ابننا في اليوم الأخير من شهر أكتوبر، ووصلت إلى فرانكفورت في اليوم التالي لولادته، بقيت أنت مع الطفلين في ألمانيا، وسافرت أنا إلى تل أبيب عبر إيطاليا لأبلغ رؤسائي أن ألمانيا قد أرسلت إلى إسرائيل أسلحة قيمتها 200 مليون دولار، واشتملت هذه الأسلحة، من بين أنواع كثيرة، على طائرات هليكوبتر ومقاتلات نفاثة ودبابات وقوارب بل وغواصات.
وقرر (عبدالناصر) مواجهة الحكومة الألمانية بهذه المعلومات، وحين جابه عبدالناصر الحكومة الألمانية بهذه المعلومات أنكرت بشدة، وحدث أن أغفلت القاهرة المعلومات التي نقلتها الخاصة بالاتفاق السري بين شيمون بيريز عن إسرائيل، ووزير الدفاع الألماني، بشأن المزيد من إمدادات الأسلحة، فقد صدق المسؤولون في مصر الألمان، وفيما عدا ذلك لم تحدث أشياء تذكر.
عدت من ألمانيا إلى إسرائيل، وعند وصولي وجدت (ديان) يحمل مفاجأة لي، لقد وضع اسمي لأكون أحد المرشحين لعضوية مجلس الوزراء. شعرت برغبة في أن أضحك في داخلي، استهواني الأمر، غير أنني كنت واثقًا من أن الشين بيت سوف تتحرى عني بصورة أكثر تركيزًا وهو أمر خطير، لذلك أثنيت (ديان) عن رأيه بأن قلت له إنني أريد الانتقال إلى ألمانيا نهائيًا لأبقى مع زوجتي وطفلي، وكان هذا هو الأفضل.
منزل رفعت الجمال في تل أبيب
وبدأت أنشط في سبيل بيع نصيبي في مكتب السفريات، وتبين أن الأمر أصعب مما توقعت، وشرعت في متابعة وتعلم الأعمال الخاصة بتجارة النفط، وعزمت على أن أبدأ في ذلك بعد أن يستقر بي المقام نهائيًا في ألمانيا، ولم أفعل في هذه الأثناء شيئًا سوى إرسال رسائلي الروتينية إلى رئيسي.
«تفاقمت حالتي المرضية، وبدأت منذ أكتوبر 1981 أتلقى علاجًا كيميائيًا في لندن، ولم يعد العلاج يفيد شيئًا، قال لي الطبيب إنه لم يبق أمامي سوى ثلاثة أو أربعة أشهر، استبد بي الضيق بعد انتهاء علاقتي مع جهاز المخابرات.
لقد وضعت حدًا لعملي في مجال التجسس الذي أديته حقًا بسعادة غامرة، وإذا عدت بنظري إلى الماضي أجدني أقول: (إني أديت واجبي على الوجه الأكمل).
رجعت إلى ألمانيا وركزت كل اهتمامي على عملي، وأبرمت صفقة مع ليبيا، ونظرًا لحاجتي إلى السفر إلى هناك، فقد كان لزامًا أن أخرج مسرحية صغيرة بالاشتراك مع القس صديقي في ألمانيا. حدثته عن خططي للسفر إلى ليبيا وصارحته بمخاوفي بسبب أصلي اليهودي، وإذا بالرجل ودون أدنى تردد يكتب لي رسالة موضحًا أنني جاك بيتون من أبناء كنيسته البروتستانتية. كانت هذه الرسالة هامة جدًا حيث أن الدين غير مذكور في جواز السفر الألماني، ولسوء الحظ أن الوثيقة التي حصلت عليها من القس كانت هي النجاح الوحيد الذي حققته، فعلى الرغم من أنني نجحت في مقابلة مسؤولين كبار في الحكومة الليبية إلا أن الصفقة لم تتحقق، وأصبحت الآن بصدد مشكلة مالية كبيرة، كان هذا في عام 1975، وأصبح لزامًا علي أن أبدأ كل شيء من جديد.
ولأول مرة منذ ذلك الحين، سافرت إلى مصر باسم جاك بيتون الألماني الجنسية. فرحت إذ أعود وأرى بلدي ثانية. والتقيت بعدد من رجال الأعمال، وقررنا أن نبدأ في تأسيس شركة تتعامل في الجوانب المالية للنشاط التجاري في مجال البترول. اشترك معنا أخي (لبيب)، قلت له إنني الآن أعيش بالاسم الفرنسي جاك بيتون تيسيرًا لحياتي العملية في ألمانيا، وأن أسرتي لا تعرف شيئًا عن أصلي المصري، حيث أنني كنت أعمل في السابق لحساب الحكومة ولم أشأ أن أخيفهم.
اضطررنا بسبب عملنا الجديد أن ننتقل إلى جنيف في عام 1976، ولسوء الحظ فإننا لم نحقق نجاحًا كبيرًا هناك أيضًا، إذ خدعني أحد شركائنا وخدع الآخرين معي وفر هاربًا ومعه كل أموال الشركة. اضطررنا إلى العودة إلى ألمانيا، وسألت أباك أن يساعدني ماليًا. كان الأطفال بحاجة إلى نفقات المدرسة، وكنا نحن بحاجة إلى أن نعيش، وشكرًا لله أن ساعدني أبوك.
ثم قررت في عام 1977 أن أبدأ العمل في مصر، عندما سمعت أن الحكومة تعتزم منح امتياز لحقل للبترول، نظرًا لأن صاحب الامتياز السابق عجز عن مواصلة الحفر بحثًا عن البترول فيه.
اتخذت جميع الترتيبات اللازمة، واستطعت أن أتنقل بحرية عبر دهاليز مختلف الوزارات مستعينًا في هذا بفترة عملي في جهاز المخابرات، فضلًا عن أن الأمور سارت على نحو أيسر نظرًا لأنني أتكلم العربية، وعرف كل من في مصر أنني جاك بيتون، رجل الأعمال من ألمانيا، لم يكتشف أحد أنني أصلًا من مصر، وأني تركتها يومًا ما. واستهان بي كثيرون، ولكنني نجحت في تدبير شؤوني لخبرتي بعادات وسلوك المصريين. واهتديت إلى شركاء عمل بغية الاستثمار في العمل الجديد في مصر.
«وسارت الأمور في مجراها بنجاح، ووجدت عددًا كافيًا من المستثمرين، خاصة الألمان، ودفعت كل ما أملك لكي أشارك به في تقديم مبلغ 2 مليون دولار أمريكي للحكومة المصرية علاوة عن توقيع نظير الحصول على حق الامتياز في منطقتي مليحة والرزاق الغربية. وأنفقنا أموالًا إضافية في سبيل تجهيز الحفارات ومن أجل الإنتاج. كم كان عسيرًا جدًا أن نجمع كل الأموال اللازمة. وبدأنا في السفر والعودة بين مصر وألمانيا. وأدركت أن شركة (آجيبيتكو) تمثل آخر فرصة لي لتحقيق عمل ناجح، ولكي أؤسس شيئًا ثمينًا أتركه من بعدي لزوجتي وأطفالي.
أحسنا تدبير أمورنا بالنسبة للشركة غير أننا كنا بحاجة إلى مال أكثر مما توقعنا، وبدأت تظهر لنا مشكلات كثيرة، أهمها أنني عرفت في أبريل 1981 أنني مصاب بالسرطان وصدمت، إذ أنني لم أكن أريد أن أموت بعد. كنت أريد أن أثبت أركان الشركة، وأن أرى (دانييل) وقد أصبح رجلًا. قصدت جميع الأطباء الذين نصحوني بهم ولكن دون فائدة، رفضت إجراء عملية جراحية لأنني أخاف ذلك، قد تحدث تعقيدات، وأنا لا أريد أن أعيد عقارب ساعة القدر للوراء.
وبعد أن تدهورت حالتي المرضية قررت أنا و(فالتراود) أن أبقى في البيت. حاولت أن أسدي إليها النصيحة فيما يتعين عليها أن تعمله بالنسبة لنشاطنا التجاري، وقد سافرت إلى مصر وشرعت في إنجاز ما طلبته منها».
انتهى رفعت الجمال من الحديث عن الماضي وقصة حياته، ليكتب كلماته الأخيرة المحملة بشعوره بقرب أجله: «ها أنذا جالس في البيت أعرف أنني سأموت وأتأمل حياتي وما قدمت خلالها. عزمت على أن أكتب كل شيء لأنني لم أكن لأستطيع أن أحكي لأحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.